وعجب إدريس من قول أبيه كما عجب إخوته. متي كانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل
من أجلها إنسان؟! ودخول الكتاب أهو ميزة أخري ؟! وهل كانت أم أدهم تدفع به
إلي الكتاب لولا يأسها من فلاحه في دنيا الفتونة ؟ وتساءل إدريس متهكما
أتكفي هذه الأسباب لتبرير ما يراد بي من مذلة؟
فأشار الجبلاوي نحوه بضجر وقال
هذه إرادتي, وما عليك إلا السمع والطاعة..
والتفت الرجل التفاتة حادة صوب أشقاء إدريس وهو يسأل ما قولكم؟
فلم يحتمل عباس نظرة أبيه, وقال وهو واجم
سمعا وطاعة..
وسرعان ما قال جليل وهو يغض طرفه
أمرك يا أبي..
وقال رضوان وهو يزدرد ريقه الجاف
علي العين والرأس
عندئذ ضحك إدريس ضحكة غضب تقلصت لها أساريره حتي قبحت وجهه وهتف
يا جبناء, ما توقعت منكم إلا الهزيمة المزرية, وبالجبن يتحكم فيكم ابن الجارية السوداء..
صاح الجبلاوي مقطبا عن عينين تتطاير منهما النزر
إدريس!
ولكن الغضب كان قد اقتلع جذور عقله فصاح بدوره
ما أهون الأبوة عليك, خلقت فتوة جبارا فلم تعرف إلا أن تكون فتوة جبارا ونحن أبناؤك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين..
اقترب الجبلاوي خطوتين في بطء كالتوثب وقال بصوت منخفض وقد أنذرت أساريره المنقبضة بالشر
اقطع لسانك ولكن إدريس واصل صياحه قائلا لن ترعبني, أنت تعلم أنني لا أرتعب وأنك إذا أردت أن ترفع ابن الجارية
فلم ولن أسمعك لحن السمع والطاعة..
ألا تدرك عاقبة التحدي يا ملعون؟
الملعون حقا هو ابن الجارية..
فعلت بنرات الرجل واخشوشنت وهو يقول
إنها زوجتي يا عربيد فتأدب وإلا سويت بك الأرض
وفزع الإخوة وأولهم أدهم لدرايتهم ببطش الجبار ولكن إدريس كان قد بلغ من
الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطرا كأنه مجنون يهاجم نارا مندلعة فصاح
إنك تبغضني, لم أكن أعلم هذا ولكنك تبغضني دون ريب, لعل الجارية هي التي
بغضتنا رليك, سيد الخلاء وصاحب الزوقاف والفتوة الرهيب ولكن جارية استطاعت
أن تعبث بك, وغدا يتحدث عنك الناس بكل عجيبة يا سيد الخلاء
قلت لك أقطع لسانك يا ملعون..
لا تسبني من أجل أدهم, طوب الأرض يأبي ذلك ويلعنه, وقرارك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء والحواري..
فصاح الجبلاوي بصوت صك الأسماع في الحديقة والحريم اغرب بعيدا عن وجهي..
هذا بيتي فيه أمي, وهي سيدته دون منازع
لن تري فيه بعد اليوم, وإلي الأبد..
واكفهر الوجه الكبير حتي حاكي لونه النيل في احتدام فيضانه, وتحرك صاحبه
كالبنيان, مكورا قبضة من صوان. وأيقن الجميع أن الدرس قد انتهي. ما هو إلا
مأساة جديدة من المآسي التي يشهدها هذا البيت صامتا, كم من سيدة مصونة
تحولت بكلمة إلي متسولة تعيسة. وكم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنحا
يحمل علي ظهره العاري آثار سياط حملت أطرافها بالرصاص والدم يطفح من فيه
وأنفه. والرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وإن عز جانبه عند
الغضب. لهذا أيقن الجميع أن إدريس قد انتهي. حتي إدريس بكري الواقف ومثيله
في القوة والجمال قد انتهي. ويقدم الجبلاوي خطوتين أخريين وهو يقول
لا انت ابني ولا أنا أبوك, ولا هذا البيت بيتك, ولا أم لك فيه ولا أخ ولا
تابع, أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوبا بغضبي ولعنتي, وستعلمك الأيام
حقيقة فتدرك وأنت تهيم علي وجهك محروما من عطفي ورعايتي..
فضرب إدريس البساط الفارسي بقدميه وصاح
هذا بيتي ولن أغادره..
فانقض عليه الأب قبل أن يتقيه, وقبض علي منكبه بقبضة كالمعصرة, ودفعه
أمامه والآخر يتراجع متقهقرا, فعبرا باب السلاملك, وهبطا السلم وإدريس
يتعثر, ثم اخترق به ممرا تكتنفه شجيرات الياسمين حتي البوابة الكبيرة فدفعه
خارجا وأغلق الباب.
وصاح بصوت سمعه كل من يقيم في البيت
الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها...
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أخري
وطالقة ثلاثا من تجترئ علي هذا..
(2)
منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب كل صباح إلي إدارة الوقف في المنظرة
الواقعة إلي يمين البيت الكبير, وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار وتوزيع
أنصبة المستحقين وتقديم الحسابات إلي أبيه. وأبدي في معاملة المستأجرين
لباقة وسياسة فرضوا عنه علي رغم ما عرف عنهم من مشاكسة وفظاظة. وكانت شروط
الواقف سرا لا يدري به أحد سوي الأب فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف من أن
يكون هذا مقدمة لإيثاره في الوصية. والحق أنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم
ما ينم عن التحيز في معاملته لأبنائه. وعاش الإخوة في وئام وانسجام بفضل
مهابة الأب وعدالته حتي إدريس علي قوته وجماله وإسرافه أحيانا في اللهو لم
يسئ قبل ذلك اليوم إلي أحد من إخوته. كان شابا كريما حلو المعشر حائزا للود
والإعجاب. ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئا من الإحساس
بالفارق بينهم وبينه, ولكن أحدا منهم لم يعلن هذا ولا أشتم منه في كلمة أو
إشارة أو سلوك. ولعل أدهم كان أشد إحساسا منهم بهذا الفارق, ولعله قارن
كثيرا بين لونهم المضيء ولونه الأسمر, بين قوتهم ورقته, بين سمو أمهم
ووضاعة أمه, ولعله عاني من ذلك أسي مكتوما وألما دفينا, ولكن جو البيت
المعبق بشذي الرياحين, الخاضع لقوة الأب وحكمته لم يسمح لشعور سيء
بالاستقرار في نفسه, فنشأ صافي القلب والعقل. وقال أدهم لأمه قبيل ذهابه
إلي إدارة الوقف.
باركيني يا أمي, فما هذا العمل الذي عهد به إلي سوي امتحان شديد لي ولك..
فقالت الأم بضراعة ليكن التوفيق ظلك يا بني, أنت ولد طيب والعقبي للطيبين..
ومضي أدهم إلي المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة ومن وراء
النوافذ وجلس علي مقعد ناظر الوقف وبدأ عمله. وكان عمله أخطر نشاط إنساني
يزاول في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقا والقاهرة القديمة غربا,
واتخذ أدهم من الأمانة شعارا, وسجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ
الوقف, وكان يسلم إخوته رواتبهم في أدب ينسيهم مرارة الحنق ثم يقصد أباه
بحصيلة الأموال...
فصل من رواية أولاد حارتنا
نشر بالاهرام في1959/9/22