Friday, August 1, 2014

رئيس تركيا .. قصة منصب


أيام ويبدأ الاستحقاق الرئاسى، وفى القلب منه يأتى رجب طيب اردوغان الطامح فى أن يكون الساكن الجديد للكشك (القصر الجمهورى) وليتوج مسيرة ناضل فيها بكل الوسائل مشروعة أو غير المشروعة ليحقق حلمه ، ولا يهم ما إذا كان المنصب شرفيا، أو كونه ذا صلاحيات محدودة، فليس هناك سياسى فى عموم الأناضول، إلا وتمنى هذا الشرف

أنه الرئيس، عنوان الأمة التركية وحافظ وحدتها وحامى علمانيتها والقائد الأعلى لقواتها المسلحة ، وعموما فالمنصب لن يكون رمزيا ، فطموح اردوغان لا حدود له بيد أنه لا يتوقف عند الصلاحيات فحسب بل تغيير النظام السياسى برمته ليصبح رئاسيا أسوة بالقابع فى البيت الابيض الأمريكي.
أحد وتسعون عاما تقريبا هى حقبة الدولة الكمالية الناهضة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، خلالها  تناوب على رئاستها، أحد عشر رئيسا آخرهم الحالى "عبد الله جول"، وكان من الممكن أن يكون الكرسى من نصيب رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، إلا أن مظاهرات صاخبة ، قبل سبع سنوات، وقفت حجر عثرة ، وهكذا لم يكن له خيار سوى أن يتجرع كأس السم ، فاسحا الطريق أمام رفيقه فى تأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم عبد الله جول كى يكون هو الرئيس

وها هى الأقدار تلعب لعبتها فاليوم على الصديق ــ المتردد ــ أن يفعل الأمر نفسه ويترك مكانه ــ لو على مضض ــ لصديقه الذى يعود مقاتلا شرسا ، لا لكى يصبح الرئيس الثانى عشر فقط ، بل الأول الذى يملك السلطة التنفيذية بشقيها الجمهورى والرئاسى ، أى أن يكون هو كل شئ
وهنا المفارقة الفريدة فى مسيرة وريثة رجل أورويا ، أن يلتحم التسلط بالديمقراطية، وللتدليل على ذلك نسوق فى السطور التالية وبإيجاز قصة المنصب الذى يريده بائع السميط فى حى قاسم باشا بقلب إسطنبول ، أن يصبح منصبين فى واحد
لأنه هو المؤسس كان طبيعيا أن يصبح مصطفى كمال أتاتورك هو رئيسا لجمهوريته الجديدة الفتية ، لكن اللافت وهو ما أكده مؤرخى تلك الفترة ،أن الرجل لم يكن ميالا لأن تكون كل خيوط الحكم بيده وحده، بل ذهب البعض إلى القول بأنه كان حريصا على جعل منصب الرئيس رمزيا شرفيا، أكثر منه شئ آخر وبحيث يتولى البرلمان ومعه الحكومة إدارة دفة الأمور فى عموم البلاد وخارجها.
غير أن الواقع بدا عكس ذلك ، والمؤرخون أنفسهم قدموا تفسيرات عديدة منها أن المكانة العظيمة لدى شعبه والتى لم يسع إليها أتاتورك فرضت نفسها لتكون قدره ، يأمر فيطاع، أحاديثه فى مجالات الحياة ترجمت على الفور لتكون أشبه بالنقاط فوق الحروف، وعندما يتكلم فى السياسة الخارجية وما يجب على تركيا أن تفعله سرعان ما يقوم مساعدوه بتحويل المقولات إلى آليات عمل ترسم القواعد العامة للعمل الدبلوماسي، وتحدد فى الوقت ذاته مواقف انقرة من القضايا الاقليمية والدولية والعلاقات مع بلدان العالم، ولأنه كاريزما، لم يحدث أن تبرم رؤساء الحكومات من سلطاته المطلقة التى لم يكن يرغب فيها
مع بداية عام 1938، راح " عصمت أينونو"  رئيس الحكومة آنذاك ، يمارس بعض صلاحيات الرئيس ، والتى كانت تزداد مع  زيادة التدهور فى الوضع الصحى لاتاتورك ، وفى نوفمبر وعقب وفاة الأخير ، عقد البرلمان جلسة استثنائية عين فيها أينونو رئيسا للجمهورية، ولأن إينونو كان رفيق أتاتورك فقد ظل قابضا على الرئاسة والحكومة مع الفارق فى أن أينونو لم يكن يمتلك نفس الهالة التى كان يتمتع بها سلفه ، أضف إلى ذلك الأوضاع المحيطة بالبلاد الآخذة فى التغير فضلا على أن رياح الديمقراطية القادمة من القارة العجوز بدت بدورها لا تستسيغ مفاهيم القائد المعلم، وبما أن تركيا كانت تواقة  للاندماج فى الغرب انتهجت التعددية السياسية، والتى كان من ثمارها صعود جلال بايار إلى " شنكاياى " ليكون الرئيس الثالث ومعه عاد المنصب ليتوائم مع النصوص الدستورية لا يبارحها تاركا السلطات الحقيقية لرئيس الحكومة المنتخب عدنان مندريس، ولأسباب ليس مجالها الآن ، تدخل الجيش فى السابع والعشرين من مايو عام 1960 لوأد ما اعتبره فوضى ولإعادة ضبط إيقاع الحياة السياسية، ويصبح قائد الانقلاب الأول فى عمر الجمهورية "جمال جورسيل" هو الرئيس الرابع خلفا لجلال بايار
وفى عام 1964 وبعد معاناة مع مرض عضال يرحل "جورسيل" ليحل محله دون معوقات الجنرال المتقاعد جودت صوناى، واعتبارا من مارس 1973، بدا صوناى يمهد لتمديد فترة رئاسته، إلا أن رئيس الحكومة آنذاك سليمان ديميريل حال دون تحقيق ذلك التزاما بالدستور، وبعد مارثون استغرق خمس عشرة جلسة بالبرلمان، اتفقت الاحزاب على انتخاب جنرال متقاعد آخر ألا وهو " فخرى كورتورك " ليكون الرئيس السابع للجمهورية 
ديميريل نفسه سيعود ويعرقل محاولة للراحل تورجوت أوزال، فبعد ان تمكن من الجلوس على سدة الرئاسة فى 1989 ، اراد أن يتم انتخاب الرئيس من خلال الاقتراع الشعبى المباشر، كى يستمر رئيسا مستندا إلى شعبيته الجارفة، لكن هيهات فالفشل كان نصيبه وعلى أية حال لم يمهله القدر أن يكمل مدته ففى ابريل 1993 واثر أزمة قلبية توفى أوزال، ولتدور عقارب الزمن ليقف ديميريل الذى اصبح الرئيس التاسع للجمهورية ليتكرر معه الموقف ذاته، ففى مستهل الألفية الثالثة تمكن اعضاء الوطن الام الذى أسسه أوزال فى ثمانينات القرن المنصرم من عرقلة التمديد له
ثم ياتى احمد نجدت سيزار الذى كان رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، ليصبح الرئيس العاشر، وليدشن صورة الحاكم الزاهد إذ بدا عازفا عن مظاهر المنصب، مقلصا ميزانية الرئاسة إلى الحدود الدنيا، رافضا أى حديث عن صلاحيات إضافية غير تلك التى نص عليها الدستور، بل زاد على ذلك أنه أبدى استعداده لتقليصها لصالح رئيس الحكومة والبرلمان
ومع صعود العدالة والتنمية فى عام 2003 تدخل البلاد والمنصب منحى آخر مغايرا عن كل ما جرى خلال تسعة عقود يحاول ، كانت البداية تعديل الدستور حتى لا يكون اختيار الرئيس تحت رحمة البرلمان، يعقبها بإجراء ثان  يمكن اردوغان من الترشح للرئاسة دون أن يستقيل من منصبه كرئيس للحكومة وحتى يضمن استغلال إمكانات الدولة فى دعايته الانتخابية وفقا لما حاصل الآن عازما على وضع دستور جديد تماما فيه يتغير شكل الحكم من برلمانى إلى رئاسى يكون هو محوره لكن تلك الرغبة الجامحة هذه يبدو أن تحقيقها صعب المنال وفى ظنى أنها لن تتحقق ..!!
بقلم
سيد عبد المجيد
أنقرة

0 comments:

Post a Comment

قول ولا تجرحـش