Sunday, March 3, 2013

...طه حسين:فقرة فى مقالة...


وليس كمثله من يستطيع صياغة حروف تليق بمقام زيارة للكعبة وقبر محمد صلي اللـه عليه وسلم, لقد عبر طه حسين عن مشاعره حين حل بالأراضي المقدسة فيقول في أول ابريل1955: أول ما شعرت به ومازلت أشعر به إلي الآن هو الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جدا إلي موطن عقله وقلبه وروحه.. ويقول لمرافقه الشيخ أمين الخولي وهما يغادران جدة قاصدين البيت الحرام بمكة المكرمة أن يوقف الركب عند الحديبية, وعندها ترجل طه قبض من تراب الحديبية قبضة فشمها ثم تمتم ودموعه تنساب قائلا: وإني لأشم رائحة النبي محمد صلوات اللـه عليه في هذا التراب الطاهر, وتوجها إلي الكعبة فاستلم الحجر وقبله باكيا, وظل يقبله ويبكي حتي وقفت مواكب الحجيج انتظارا لأن يغادر الأديب الكبير المكفوف مكانه, ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل, ونسي نفسه فتركوه مكانه, وأجهشوا معه في البكاء, واستمر يطوف ويسعي في خشوع ضارع وبكاء خفي حتي أتم عمرته, وقد أخذ منه الإرهاق النفسي أكثر من البدني كل مأخذ.. ويفضي بعدها طه للشاعر كامل الشناوي عن تلك اللحظات الروحية قائلا: لقد سبق أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاما, منذ بدأت أكتب عن( هامش السيرة).. عشت بعقلي الباطن وعقلي الواعي, استعدت كل ذكرياتي القديمة, ومنها ما هو من صميم التاريخ, ومنها ما هو من صميم العقيدة, وكانت الذكريات تختلط بواقعي فتبدو حقائق أحيانا, ورموزا حينا.. كنت دائما في كامل وعيي, وقد أخذتني الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدي, وقد كنت في تلك المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد, وقد حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين, ولكن محاولاتي ذهبت هباء ووجدتني بين أيديهم أردد بلا وعي ما يقولونه, ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وإن كنت في صحبتهم.. كنت شخصية واعية بلا كـلام, وشخصية متكلمة بلا وعي.. كانت الشخصية الناطقة بلا وعي تردد كـلام المطوفين, والشخصية الواعية بلا كـلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع.. قلت له سبحانه: اللهم لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض, ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن, أنت الحق, ووعدك الحق, والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق.. اللهم لك أسلمت, وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت.. فاغفرلي ما قدمت وأخرت, وما أسررت وأعلنت, أنت إلهي, لا إله إلا أنت.. وهذا الدعاء أحفظه منذ زمن بعيد, وهو من أصح ما روي من الحديث عن النبي صلي اللـه عليه وسلم ودائما أناجي ربي به.. ويسأله كامل الشناوي فيما إذا كان قد خاطب بهذا الدعاء ربه علنا؟ أجاب العميد: أنا إذا ما خاطبت ربي ناجيته, وإن كنت قد أذعته علنا عام1951 في فلورنسا باللغة الفرنسية في مؤتمر الحضارة المسيحية, وما أن انتهيت من إلقائه حتي دوت قاعة المؤتمر بتصفيق شديد, وجاءتني سيدة مسيحية تقول لي وهي تبكي:( هذه دموعي أذرفها بين يديك من فرط إعجابي بالإسلام الذي أحبه كثيرا.. فقلت لها: لا داعي للدموع فإعجابك يكفي).. وتروي سوزان طه حسين في مذكراتها معك قائلة لزوجها: أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحدنا دوما في احترام كل منا لدين الآخر. لقد دهش البعض من ذلك, في حين فهم البعض الآخر أن بوسعي أن أردد صلاتي علي حين تستمع أنت إلي القرآن الكريم في الغرفة المجاورة, واليوم بعد وفاتك أفتح الراديو لأستمع إلي الآيات القرآنية ليتخلل القرآن أعماق نفسي.. لقد كنت غالبا ما تحدثني عن القرآن, وتردد لي البسملة التي تحبها بوجه خاص وتبدأ بها أي عمل تقوم به.. كنت تردد في كثير من الأحيان أننا لا نكذب علي اللـه وويل للمكذبين..
في كتابه الأيام الذي كان أقرب إلي الشعر منه إلي النثر, فهو تاريخ شعري عاطفي لطه حسين قدم فيه صورة رسمها لأبيه والد الثلاثة عشر من البنات والبنين, عرفنا فيه الأب الشيخ المعمر حسين علي سلامة الذي عاش إلي ما بعد المائة والذي كان يرفق به دون أن يخلو هذا الرفق من شيء من الازدراء له إذ كان لا يحسن التصرف كالآخرين, وقد هدته طبيعته التقية العملية إلي الانتفاع بصبيه الضرير, فكان يطلب إليه أن يقرأ عنه عدية ياسين توسلا بها إلي اللـه لأنه صبي وكفيف, وهو بهاتين الميزتين أثير عند اللـه رفيع المكانة أكثر منه ولا يرضي اللـه أن يرد صبيا كفيفا حين يطلب إليه أمرا من الأمور متوسـلا بقراءة القرآن.. ذلك الأب زاره طه الابن حامل الدكتوراه من باريس مصطحبا زوجته وابنته ليظل ذلك اللقاء الأسري في عام1920 محفورا علي جدران ذاكرة سوزان لتقول عنه: تعرفت علي حموي, وكانا يعيشان في كوم أمبو قريبا من أسوان, وقد استقبلاني بحرارة, وبعد تبادل التحيات التقليدية قال عمي لابنه طه:( سأخرج مع زوجتك, فلا تنشغل بنا) وتناول الحاج ذراعي, وقمنا معا بجولة في البلدة, وربما يبدو الأمر خارقا لشباب اليوم أن يتنزه شيخ وقور معمم معلق في ذراعه امرأة شابة سافرة, أجنبية ومسيحية ترتدي القبعة! لكنه كان أمرا بسيطا ومقبولا في الصعيد في تلك الحقبة.. ولم أنس تلك اللفتة علي الإطلاق عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامي فلا أملك نفسي عن الابتسام أو الغضب.. ذلك الرجل صاحب الدخل البسيط لكنه يعمل جاهدا ليتيح للأسرة حياة كريمة, والذي كان يحب القراءة والحوار مع وجهاء القوم, وكان يتميز بميزة طبيعية فقد كانت عيناه الزرقاوان تتألقان بدهاء محبب, ولم أدهش للاحترام الذي كان يلقاه أينما نسير في القرية, أما حماتي فقد انشغلت تماما كما يقول المصريون لشوشتها لتأمين راحتي أنا وحفيدتها.. وكانت الحوالة المالية التي أرسلها والد طه هي التي سمحت لنا بشراء عربة للصغيرة.. وكان طه يحدثني عن أبويه بحنان, وعرفت منه أن أمه تكسر أربعين بيضة لصنع قرص العجة للعائلة, وأن أهله في العيد الكبير ــ عيد الأضحي ــ يشترون عجلا وخروفا: الخروف للبيت, والعجل لتوزيعه علي الفقراء. وهل كان بوسعي أن أتخيل أن حماتي ــ وهي المسلمة المتدينة ــ يمكن أن تسأل طه عن أي نوع من زجاجات الشراب يجب شراؤه من أجلي, وقد سعدت حماتي كثيرا عندما أجبت بأنني لا أشرب غير الماء علي الإطلاق.. وبعد عودتنا للقاهرة بفترة قصيرة, تلقيت آلة خياطة سنجر, وكان ذلك في الريف البعيد يعد أجمل هدية يمكن أن تقدم للعروس.. كما تلقيت أيضا سجادتين عجميتين, أخذتا بلا شك من سجاد البيت, إحداهما صغيرة مربعة تقريبا كانت تروق لي كثيرا, والأخري أكبر منها بقليل
ويسألون طه كيف كتب60 كتابا لم يقرأها وإن كان قد أملاها كلمة كلمة, ومنها الأيام, وأبوالعلاء وثلاثيته حديث الأربعاء ومع المتنبي, وفي الشعر الجاهلي ــ الذي تحول إلي في الأدب الجاهلي من بعد العاصفة التي قوبل بها واضطر إلي حذف بعض من محتواه ــ والوعد الحق وعلي هامش السيرة وظهور الإسلام وشجرة البؤس وأحلام شهر زاد وأديب ورحلة الربيع ومستقبل الثقافة في مصر ودعاء الكروان والحب الضائع الذي استوحت منه السينما ثلاثة أفلام.. الخ.. قال العميد اللقب الذي أطلقه عليه الصاوي أحمد الصاوي عندما أراد أن ينشر مقالا لطه بعد أن فصلته الدولة من عمادة كلية الآداب فبدلا من أن يغير شيئأ رأي ببساطة أن يشطب كلمة كلية ليصبح عميد الآداب التي أصبحت مع الوقت عميد الأدب العربي
أنا لا أكتب وإنما أملي, فإذا أمليت في بيتي مشيت وأنا أملي, أما إذا أمليت في الصحيفة, فإنني أجلس إلي مكتبي ساكنا بغير حراك كأنني تمثال, ولابد لي من السيجارة في كلتا الحالتين.. وإني لأكره أن يقاطعني أحد, ولست أحب لسكرتيري أن يكون بطيئا عندما أملي عليه, وأفضل استخدامه طريقة الاختزال.. وليس من عادتي أن أفكر فيما أريد أن أكتب قبل البدء في الكتابة مباشرة, ولكنني عندما أملي لا أفكر في شيء علي الإطلاق سوي الموضوع الذي يعنيني, وإني لأكره أشد الكره أن أعود إلي قراءة ما أمليت, فأنا أشعر عندما أنتهي من كتابة مقال أو كتاب بأنني تخلصت من عبء يشق علي أن أتحمله مرة أخري.. وأنا أكتب في معظم الأحيان لأن لدي شيئا أرغب في قوله, وفي هذه الحالة لا يمكن لشيء أو شخص أن يمنعني, ويحدث في بعض الأحيان أن أكتب لأن هناك من يطلب مني أن أقول شيئا ما, وعندئذ لا أدري كيف أكافئ من يعفيني من هذا العذاب, والناس لا يعرفون حين يطلبون منك المقال أو الحديث أو المقدمة رفقا ولا لينا.. فهم يطلبون ويطلبون.. ويلحون ويلحون.. فإذا أعياهم أن يبلغوا منك ما أرادوا توسلوا إليك بمن تحب, وتشفعوا إليك بمن لا تملك لشفاعته ردا حتي يبغضوا إليك الكتابة ويكرهوا إليك الأدب

!!ويوشكوا أن يزهدوك في الحياة ويشبه قاهر الظلام نفوس الشباب المصريين بالعفريت الذي حبسه نبي اللـه سليمان في قمقم مطبق من النحاس, وختم عليه بخاتمه وأمر به فألقي في أعماق البحر كما تحدثنا ألف ليلة وليلة.. وأجسام الشباب المصريين هي هذه القمائم المطبقة المختومة بالتعاويذ إلا أنها ليست من نحاس وإنما من لحم ودم.. والفرق بين هذه النفوس السجينة في قمائمها وبين ذلك العفريت, هو أن العفريت وجد الصياد الذي استخرج قمقمه من أعماق البحر, وفض عنه خاتمه, ورفع عنه غطاءه, وأتاح للعفريت أن يغدو ماردا جبارا في الهواء الطلق.. أما شبابنا المصري فلم يجد هذا الصياد الذي يخرجه من قمائمه, ويرد إليه الحرية, ويخلي بينه وبين الهواء والنور والجمال, تستمتع به وتتمتع به الأجيال.. وإلي أن يوجد هذا الصياد فالوقوف إلي جانب البحر لن ينقل إلينا سوي أنين القماقم وصخب الأمواج!!. وقد كان النحات محمود مختار ـ في نظر طه حسين ــ أحد الشباب المصريين الذي خرج من القمقم كأول المجددين: خلال قرون طويلة نسيت فيها مصر أنها كانت مهد الفنون التشكيلية. فلما جاء مختار تنبهت مصر فجأة إلي تراثها بالأمس ومثلها الأعلي في الغد.. وكان مختار هو بطلها.. فبينما كان البعض يصنع الثورة السياسية والبعض الآخر يصنع الثورة الأدبية, كان مختار يحدث ثورة خاصة به, ولم يكن عبثا أن سمي النصب الذي نحته نهضة مصر فهذا الرمز هو في المقام الأول رمز اليقظة الفنية والفكرية والأدبية, وهو تحية موجهة إلي فجر النهضة.. وقد كان مختار كشفا جديدا وظاهرة فذة ولذلك أجمعنا علي تسميته النابغة وكان تجديده خطرا ومع ذلك فلم يجد استنكارا من أحد, بل إن الأزهر نفسه وقف منه موقف الإعجاب والتشجيع وكان تجديده طريقة جديدة في مناصرة الاستقلال, وليعلم الشباب اليوم أننا ندين بحرية الفن وانطلاقته إلي مختار النابغة الذي لم ينتظر صيادا ليفتح قمقمه وإنما حرارة جذوة الفن بداخله كانت قوة دافعة لترفعه من الأعماق للسطح لينضو عنه صدفته ويخرج حرا تحت ضوء الشمس يصنع أثره الخالد.. تمثال نهضة مصر!
وتؤثر الرجعية الفكرية علي موقف طه السياسي فيرفض التعاون مع حكومة صدقي باشا التي أغلقت معهد التمثيل والرقص التوقيعي بحجة أنه يمس الآداب العامة, وحاربت الاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة حربا قاسية شعواء, وأثارت العديد من المعارك والحروب ضد حرية الفكر, وكان أن قررت الحكومة من جانبها محاربة طه حسين ذات نفسه لتطلق عليه قططها الفاطسة فعزلته من منصبه كعميد لكلية الآداب, وعينته مفتشا متجولا للغة العربية في وزارة المعارف, وتقدم بعض النواب إلي وزير المعارف باستجواب يفتح من جديد قضية كتاب الشعر الجاهلي, وكان من بين الاتهامات الرئيسية أنه ظهر في صورة نشرت في جريدة الأهرام تمثل طلبة كلية الآداب حول عميدهم ـ الدكتور طه حسين ـ وقد جلست كل شابة إلي جانب شاب.. وفي اليوم الأول لنقل العميد من الجامعة أضرب الطلبة تحت قيادة الطلاب الوفديين.. وخرجوا في مظاهرة ضخمة إلي بيت طه حسين ليحملوه علي الأعناق هاتفين بحياته وحياة الفكر الحر المضطهد!.. ومن يومها استقل طه حسين عن الدعوة إلي الجديد في الفكر إلي دعوة أخري هي... التجديد في المجتمع نفسه.. مطالبا بالعودة إلي التاريخ الإسلامي لنستمد منه البراهين المختلفة علي أن الإسلام كان ثورة اجتماعية ضد الظلم المادي, وليثبت في العديد من كتبه مثل الوعد الحق أن الدعوة إلي العدل أساس من أسس الإسلام, ويرفع في العديد من كتبه مثل مستقبل الثقافة في مصر شعاره العلم حق للجميع كالماء والهواء..
وتدخل قصة سوزان وطه التاريخ العاطفي كجميل وبثينة, وقيس وليلي, ويكتب طه حسين لنصفه الآخر: أنت تمنحيني كل شيء كل شيء, كل شيء بدون استثناء, لقد رحلت فلحق بك ذكائي, كل قلبي, كل نفسي, أو لم تحملي كل ذلك معك!!؟

وبعد عدة أيام من رحيلها يصطدم بالدولاب ليراسلها بقوله: ضيعت وقتك وأنت تشرحين لي تنظيم أدراجك.. وكنت أصغي إليك بأذن شاردة, وتركت لك يدي دون أن أشعر علي وجه اليقين ما كنت تجعلينني أمسه, فقد كانت المناشف والبشاكير والمناديل دوما سرا في نظري, وأمس كنت أريد منشفة, فأرسل الباب شيئا من الأنين بحيث يحسب المرء أن المنشفة كانت تصرخ بي: لا تمسني.. يا من لا تراني.. ولا تدرك لوني.. دعني

!!إلي أن تعود إليك عيونك المسافرة