Friday, March 8, 2013

...الشيخ الباقورى....


هو من أسرة وافدة من بلاد المغرب العربي
التى طالما أمدت مصر بكبار المتصوفة
الذين جاءوا مصر مارين كحجيج
فطابت مصر لهم مأوى وسكنا واستقروا
بها وصارت أسماؤهم أعلاما لأحيائها
ومنهم المرسي أبوالعباس وسيدى بشر
أما إمامنا وشيخنا الباقورى
فكان جده الشيخ عبدالقادر بدوى
أحد مريدى الطريقة الخلوتية
من علماء الأندلس ومنها رحل إلى المغرب
قبل أن يستقر فى صعيد مصر
ويتزوج من إحدى فتياتها
فى بلدة "دوينة" التى

 عرفت باسم باقور فيما بعد
القرية كانت المعمل الأول لفكر شيخنا ومنهجه
فالظلم الاجتماعى الغارق فيه أهلها
زرع في نفسه بذور الإيمان 

بمبادئ الاشتراكية الإسلامية والعدالة الاجتماعية
وهو ما جعله بعد سنوات خير نصير لثورة يوليو
فى القرية كانت الخدمات قليلة
والحياة صعبة بلا كهرباء أو مياه نظيفة
ويظل الشيخ الباقورى طيلة حياته
يتذكر كيف أنه مر فوق بطن أخيه الرضيع
الذي وضعته أمه على الأرض
فقتله لأنه لم يميزه فى الظلام الدامس

وتظل تلك الواقعة وغيرها تؤرقه على أحوال الفلاحين
فى القرية عرف الجيران الأقباط
الذين كانت تمتلأ بهم قري أسيوط
ولمس بنفسه مفهوم الوحدة الوطنية
من جدته "عزيزة" التى كانت
لها صديقة مسيحية شديدة القرب
إلى نفسها وكان هو يناديها
"ستى دميانة"

 كانت هى الأخرى قريبة من نفسه
وظل يتذكر كيف كانت فى ليالى
الشتاء القارسة تضع قدميه بين قدميها لتدفئهما
فى القرية
كان أحمد حسن الباقورى
يضطر للسير حافيا فوق

 أعواد البرسيم الباردة والاستيقاظ
فى عز البرد ليلحق بكتاب القرية
لينهل فيه من آيات الذكر الحكيم
وكان الكتاب معينه ليلتحق بمعهد أسيوط الدينى
ثورة على الجمود والاحتلال
ثم كان
المعهد كمكان وقيمة
ثانى أهم المحطات فى حياة الباقورى
ففيه عرف شيوخه
الذين سيظل أثرهم علامة
فى شخصه فى وقت كانت فيه
ثورة 1919 فى أوجها
وكان شيوخ الأزهر فى طليعة الثائرين
كان منهم عبدالجليل عيسى
ومصطفى الغاياتى وعبداللطيف دراز
"والد زوجة المستقبل فيما بعد"
فى تلك الأثناء عرف شيخنا الطريق
إلى أشعار شوقى وكتابات المنفلوطى
وترجمات أحمد حسن الزيات
واختلط بالشباب من كل حدب
وكانت قضية الاستقلال الوطنى
تفرض نفسها على اهتمامات الشباب قاطبة
وكان شيخنا من رعيل الشباب
الذين ساندوا ثورة المراغي لإصلاح الأزهر
وتستمر الرغبة فى الثورة
على الركود والتقليد كائنة
فى نفس الشيخ طوال حياته
فينبرى مدافعا عن فكرة التقريب
بين المذاهب الإسلامية
وكان من أهم أقواله فى هذا
"فما تفرق المسلمون فى الماضي
إلا لهذه العزلة العقلية
التى قطعت أواصر العلاقة
بينهم فساء ظن بعضهم ببعض
وليس من سبيل للتعرف على الحق
فى هذه القضية إلا سبيل الاطلاع والكشف
عما عند الفرق المختلفة من مذاهب
وما تدين من آراء"
كما طالب بنشر الكتب الشيعية
وكان الإمام فى حياته من الميسرين
لا المعسرين
فأفتى بجواز تمثيل حياة الصحابة
لتكون منهلا واقعيا لفكر الإسلام
فأيد الفنان نور الشريف فى تقديم
شخصية عمر بن عبدالعزيز
وكل من شاهد المسلسل
يدرك كم كان من الممكن
لدعوات التحريم التى لا تتوقف ليل نهار
أن تحرم اجيال متعاقبة من رؤية هذا العمل
الذي قرب إلينا شخصية هذا الإمام العادل
حفيد الإمام العادل عمر بن الخطاب
كان الباقورى متفتحا
لم يخف يوما أنه يستمع
أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب
لم يخف قناعته بضرورة
تقييد تعدد الزوجات مستشهدا
بموقف النبى الذي رفض أن يتزوج

 على بن أبى طالب من أخرى غير ابنته فاطمة
لقاء بالبنا
كان الباقورى طالبا عندما
حضر إحدى جلسات الإمام حسن البنا
فى عمارة الشماشرجى بشارع محمد على
وكان لقاؤه بالشيخ حسن البنا
نقطة تحول حقيقية فى حياته
لقد دفعته شخصية الشيخ
وقدرته على تفسير القرآن
والاستشهاد به فى مختلف
المواقف الحياتية إلى الإعجاب به
والانضمام إلى الإخوان المسلمين
وكان يسافر معه فى كل أسفاره
عبر طول مصر وعرضها
حتى صار من الأعضاء البارزين
بالجماعة وعضو مكتب الإرشاد
بل كان أحد المرشحين
بقوة لخلافة الإمام
ونظرا لأن شيخنا كان يحب الشعر
ويقرضه فقد طلب منه شيخه البنا
:-أن يضع نشيدا للجماعة
يا رسول الله
هل يرضيك أنا

ننفض اليوم غبار النوم عنا
إخوة فى الله للإسلام كنا
لا نهاب الموت بل نتمنى

ووصلت درجة قربه من الشيخ
أنه هو الذي ذهب ليخطب له
ابنة الشيخ عبد اللطيف دراز
وكان الباقورى رفيقه
حتى اللحظة الأخيرة وقبل اغتياله بدقائق
فقد تركه تلك الليلة ليركب الترام
من باب اللوق ليصل الى بيته
فيفاجا بنبأ اغتياله
ويبكى كما لم يبك فى حياته
رحيل شيخه وأستاذه
ويظل وفيا لذكراه حريصا
على رعاية أسر الإخوان فى المعتقلات
كما أوصاه شيخه قبل الرحيل
وتظل صلته بالجماعة
إلى حين حتى يضطر إلى الاستقالة
منها بعد قبوله وزارة الأوقاف فى عهد الثورة
 الشيخ محبا
دخل الشاب المعمم يوم خطبته
ليسلم على عروسه ونساء العائلة
فحلاوة حديثه وكمال منطقه
أجبرا الجميع على الإنصات
لهذا الشاب الجليل حتى عروسه الصغيرة
التى كانت قلقة من رد فعل
زميلاتها فى المدرسة الفرنسية
على اقترانها بشيخ يرتدى العمامة
تلاشي لديها ذلك القلق
وحل محله إعجاب عميق
وتفاخر بأنها ستصير زوجه لهذا الشيخ
وعندما فاجأها بعد يوم واحد
من الزواج بارتدائه لبس الأفندية
وجدت نفسها أميل إليه
وهو يرتدى العمامة
هذه القصة أحد القصص الإنسانية الرائعة
التى ضمنتها الكاتبة الصحفية
نعم الباز
كتابها الجامع المانع عن شيخنا والذي اختارت له اسم
"ثائر تحت العمامة"
وأجمل ما استطاعته الأستاذة نعم الباز
أنها جعلت الباقورى يسترسل

 فى حياته الخاصة بتلقائية تكشف
بعدا رائعا فى هذا الشيخ الأزهرى
الذي لم ينظر للحب
على أنه عيب أو خطيئة فصرح لها
أنه كان يخرج من بيته يوميا
من درب الجماميز إلى بركة الفيل
ليرى ابنة أستاذه وهى تخرج
إلى المدرسة أو قد يمر عصرا ليراها وهى تغادرها
ولما وجد فى نفسه ما يشجعه
على الزواج منها صارح والدته
التى كانت تتمنى أن تزوجه
فتاة من باقور تمتلك بعض الأفدنة
فأبى قلبه إلا أن يستجيب لخفقانه
وذهب إلى شيخه البنا يطلب منه
أن يخطب له ابنة استاذه وقد كان
وأثمر الزواج ابنته الأولى ليلى التى أسماها
- كما روى لكاتبنا نعم الباز -
نسبة إلى شخصية ليلى
التى امتلأت بها قصائد التراث العربي
كانت سعادته بها كبيرة
رغم غضب أمه التى كانت تقول
لو إنه تزوج من باقور لأنجب الولد
لكن ليلى كانت قرة عين أبيها

 وكان إذا خرج من البيت
حرص على الرجوع فى
أقرب وقت ليجلس إلى ليلى
وهكذا كان الحال مع ابنته الثانية
عزة خصوصا وأنها جاءت

 بعد وفاة ابنه محمد
وقد أسماها على اسم جدته لأبيه

 وجاءت ابنته صورة طبق
 الأصل منها فى الشكل والحنان البالغ
ثم جاءته آخر العنقود يمنى
والتى كانت رفيقته بعد زواج ابنتيه
فى الفترة التى أعقبت خروجه
من وزارة الثورة وكانت نصيرته
فى ظل ما تعرض له من
ضغوط وشائعات
أما زوجته "كوكب" فقد كانت
المعين الأول له فى كفاحه ضد الاستعمار
كانت عونه وسنده فى بيته
وتربية أولاده عندما تغيبه السجون
وكانت تقوم باعادة صياغة المنشورات
التى يهربها لها فى عمود الطعام
وكانت تقوم بطبع المنشورات
على البالوظة فى بدروم البيت
وترسل له الرسائل فى أبرمة
الحمام بالفريك أو داخل صينية البطاطس
داخل ثمرة بطاطس مجوفة 

مدسوسة فى قلب الصينية
الشيخ والضباط
عندما قامت ثورة يوليو
وجد فيها شيخنا ما يلبي حلمه
بالثورة على الظلم الاجتماعى
لذلك ساند الثورة لدى قيامها
وقبل وزارة الأوقاف عندما
عرضت عليه ليكون
ظهيرا ونصيرا لها
وهو ما لم يكن مقبولا
لدى بعض أعضاء جماعة الإخوان
فكتب استقالته وقبل الوزارة
لأنه كان مؤمنا بنظرية
شيخه البنا فى الثورة
"أن الله قد يصلح بالسلطان ما لا يصلح بالقرآن"
واستمر شيخنا وزيرا للأوقاف
من سبتمبر 1952 وحتى فبراير
1959 وكان شاهدا على المخاض العسير
الذي مر به مجلس قيادة الثورة
والذي بدأ بين 

محمد نجيب
الذي كان يريد العودة بالجيش الى ثكناته

 وبين
جمال عبدالناصر
الذي كان يري أن عليهم متابعة المشوار وعدم ترك السلطة

كان الباقورى قريبا من عبدالناصر
وكان دائما يسبق بخطبه
كلمات الرئيس فى مختلف المحافل الدولية
إلى أن نجح خفافيش الظلام وما أكثرهم
حول مقاعد الرؤساء فى إشعال نار الفتنة
بين الشيخ وعبدالناصر فانتهى شهر العسل
بين الصديقين لسنوات قضي خلالها
الشيخ حياته بمعزل عن الأضواء
قبل أن ينكشف المستور ويعرف عبدالناصر
مصدر الفتنة فيقوم بدعوة الشيخ
لحضور حفل زواج ابنته هدى
أما شيخنا فتولى إدارة جامعة الأزهر
فى يوليو 1964 وتفرغ لمؤلفاته العديدة
قبل ان يرحل أثناء علاجه فى لندن فى أغسطس1985
المقالة

0 comments: