Sunday, December 30, 2012

دروز بلغراد ربيع جابر : أوجاع الحرب والشتات





ربيع جابر روائي لبناني، محترف للكتابة الروائية إلى جانب عمله الصحافي، نال عمله الأخير 'دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب' 2010 إصدارات المركز الثقافي العربي ودار الآداب ببيروت، جائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة، وقد وصل إلى تصفياتها النهائية في عمل سابق
هو(أمريكا)2010 
 يستحضر في هذه الرواية التاريخ المؤلم الرازح على صدور اللبنانيين، حيث أَثَرت الحادثة التاريخية المعروفة بحرب الجبل عام 1860، تلك الحرب التي وقعت بين الدروز المسلمين والموارنة المسيحيين، وما نتج عن هذه الحرب من صدور الفرمان العثماني بترحيل 550 درزياً إلى سجون المملكة في بلاد البلغار، عقاباً لهم على اعتدائهم على المسيحيين الموارنة. وما أعقب هذه الرحلة المشؤومة من عذابات وتمزُّق للذات.
الشَّيء اللافت أن رحلتهم كانت ذهاباً بلا عودة، فمن لم تمته السُّجون في قلعة بلغراد أو الصِّرب أو الجبل الأسود أو بريشتنيا، أماتته الطبيعة القاسية التي ما ألفتها هذه الشعوب. ومع هذا فالشيء الإيجابي في هذه الرِّحلة المشؤومة أن السجون وحَّدت المتنافرين، فهؤلاء الذين كانوا يقتتلون فيما بينهم، ما أن وضعوا في مكان واحد حتى تآلفوا، هذا هو جوهر الحادثة التاريخية. ومن جانب ثانٍ قدمت لنا صفات أهل الجبل التي ميزتهم عن غيرهم. ويبقى للتاريخ أسماء الأمراء والسلاطين، والقلاع والسجون، وتلك الممالك التي كانت بعرض الأرض جميعاً تحت سلطة السلطان العثماني في إسطنبول، يرفرف فوق سواريها الهلال العثماني. وكأننا إزاء ضرب من التوثيق للتاريخ والجغرافيا يستعيد خلالهما الكاتب أمجاد الخلافة الإسلامية في عزّ مجدها، وفي ذات الوقت أفول هلالها وتنازع الدول الغربية على ميراثها. في مقابل الحكاية التاريخية التي نسج على خلفيتها المؤلف مرويته، هناك حكاية 'حنا يعقوب' بائع البيض وزوجته 'هيلانة قسطنطين' وابنتهما بربارة، وأثر غياب الزوج منذ خرج في الصباح بسلة البيض دون أن يعود على مدار اثني عشر عاماً، وكيف جاهدت الزوجة، وقاومت كل المنغصات على أمل واحد هو أن يدخل الزوج عليهم من نفس الباب الذي خرج منه
يبدأ 'حنا يعقوب' في هذه الرحلة ضرباً من العذابات وانسحاق الذات، في سجون بلاد لا يعلمها وعن جريمةٍ ليس له علاقة بها، إلا كونه كان في المكان والزمان الخطأين، ثم يعود بعد اثنى عشر عاماً، من رحلة التغريب والتعذيب شخصاً ثانياً، وقد تبدَّل كل شيء ؛ فلا هو عاد كما رحل بائع البيض في الميناء، ولا زوجته هيلانة بقيت تلك الزوجة الرقيقة، بل صارت قاسية كما أخبرها القديس بطرس، حتى بربارة طفلته التي تركها تحبو ما بقيت طفلة كما تركها، بل صارت شبيهةً بأمها. وملامح المكان تبدلت، فلا صار الهلال العثماني يرفرف على البقاع كما كان من قبل، كل شيء صار مجرد ذكرى. لم يبق على حاله سوى الألم الذي ازداد مع مرور السنوات
بحكاية حنا يعقوب' بائع البيض في الميناء، ورحلته المشؤومة، نكون مع حكاية عن القدر والمصير، فكلاهما لعبا الدور الكبير في الحكاية وإثرائها، فلولا القدر الذي أرسله إلى الميناء في تلك اللحظة الخاطئة، لما كان رُحِّلَ كبديلٍ عن آخر لم يعرفه ولم يلتقه أبداً كل علاقته به أن القدر ساقه إلى المكان في تلك اللحظة التي حدثت فيها الصفقة، في قلعة القشلاق، بين إسماعيل باشا الهنغاري، والشيخ غفار والد الخمسة المقبوض عليهم بعد حادثة الجبل والمنتظرين مع 550 درزياً السفن التي ستأخذهم إلى المنفى
عانى هؤلاء المحابيس في قلعة بلغراد، الظلام والقمل وعذابات الأقبية، وآلام الجوع والبرد والثلج، كما داهمتهم الأمراض، التي أخذت تفتك بهم واحداً تلو الآخر، حتى كانت الطامة بانتشار الكوليرا التي حصدت منهم حوالى ستة عشر رجلاً مرة واحدة، ثم يأتي استغلال هؤلاء المحابيس الدروز لأعمال خاصة، فتارة للعمل في كروم نازلي هانم، وتارة ثانية في بناء الأسوار'لجودت باشا' الذي يخشى غارات الصرب بعد أن اتسع نفوذهم حتى أنه يخشى أن تحمل بلغراد إلى إسطنبول بالسفن أو تصليح طريق أفسدته السيول، أو محاربة الذين شقوا عصا الطاعة عن السلطان، يعملون في أجواء صعبة كأن يسقط المطر الغزير عليهم، أو يشعرون بالصقيع والبرودة والثلج، أو حتى تسقط عليهم أحجار فتفتك بأحدهم أو الترهيب بالتمثيل بأجسادهم كما حدث مع الجندي البوسني الذي حاول الهرب، لئلا يفعلوا مثله. على أمل النجاة والعودة إلى بلادهم، ومع هذا فيساقون كالأنعام إلى سجن الهرسك، يتساقطون لا واحداً واحداً بل جماعات. ومع هذا فهم باقون في حبسهم ما تغيَّر شيءٌ سوى تناقص عددهم، وإصابة الكثير منهم بالعاهات، فالشيخ حمد السعدي فقد بصره، والشيخ نعمان قطعت يده
ومع كل ما واجهوه من متاعب وموات وموت، إلا أن تأثير هؤلاء الدروز ظلَّ واضحاً في هذه المنطقة التي ارتبط اسمهم بها، منذ أن وطأتها أقدامهم وهي مُكبَّلة بالأغلالِ، فصاروا يعرفون لدى الجميع بأنهم محابيس بلغراد
فما أن عملوا في مزرعة' نازلي هانم' حتى أثارت عاداتهم التي حَمَلُوها من الجبل انتباه الوكيل صمايويل، من رفضهم النظر للنساء، وكذلك عدم أكلهم من الثّمار التي يجمعونها، ثم كان هذا التأثير في المكان بزراعة الحقول، بالقمح والقرنبيط والملفوف، يوم أن قال لهم الوكيل الجديد يجب أن يعيشوا ويأكلوا من الفلاحين حتى يحين موعد الإفراج عنهم، فعمَّروا المنطقة وزرعوها بالأشجار، كما بنوا البيوت مثلما فعل
الشيخ نعمان
جاء بناء الحكاية على نمط التوازي بين الحكايتين: الرجال في المنفى، وحكاية الزوجة، وقد قام راوٍ واحد بروي الحكايتين هو الراوي العليم، حيث يحيط بالحدث في جميع الأماكن، وإن كان في بعض الأحيان يترك السَّرد للشخصية بالضمير الأنا. ومع هذا الثبات في السَّرد الذي يقاوم الشتات. اعتمد الراوي في بناء الحكاية على وحدات جميعها متصلة ببعضها البعض، سواء عبر الحدث، أو عبر حضور إحدى الشخصيات أو حتى عن طريق المأساة، فالسارد لم يجعل لهذه الوحدات البالغ عددها 98 وحدة سردية قصيرة متعاقبة عناوين الفصول التي تشي بالاستقلال، وإنما الوحدات تتتابع في تسلسل دون فاصلة تشي بأية نوع من الاستقلالية، وقد تحمل الوحدات أسماء مكان أو شخصيات أو حوادث معينة، لكن اللافت أن كثيراً من هذه الوحدات حملت تسلسلاً بالأرقام، وهو ما يشي بارتباط الأحدث معاً فنرى مثلاً [ هيلانة 1، 2، 3 ] وكذلك عالم الحدود [ 1،2،3،4] إلخ، بمعنى إننا إزاء وحدات متصلة ليس فقط بارتباط الأحداث أو الشخصيات بل أيضاً بعلامات الترقيم
وهذا التواصل الذي يأتي كموازٍ لعالم الانفكاك وانحسار الولايات العثمانية، وأيضاً رحلة النفي، ومن جانب آخر كأنه يقاوم الانفصال والانقسام، وفي ذات الوقت هو معارض لتلك الرغبة الدفينة للدول العظمى التي اتخذت من الحادثة البسيطة وسيلة للتقسيم وذوبان روح الوحدة بين المسلمين والمسيحيين وقد أثبتوا في الغربة عكس ذلك، فقد عاش المسيحي وسط المسلمين دون أن يتعرضوا له بالأذى، بل ساهموا في إنقاذه أكثر من مرة، وحملوه على أكتافهم كالخروف يوم أن عجز عن المشي معهم، كما أن المنقذ له من هذه الرحلة المشؤومة، جاء على يد قافلة الحج التي عاد معها، وشارك أفرادها طعامهم وصلاتهم، وعاش معهم كأنه واحد منهم. وفي كثيرٍ من الأحيان كاد أن ينسى أنه 'حنا يعقوب' هذا المسيحي بائع البيض المسلوق، وصدَّق أنه 'سليمان غفار عز الدين'. وكأن هذه المعاني المضمرة هي الرسالة التي بها ينعكس الحاضر ويتوازى مع التاريخي، فما حدث في الماضي كان عارضاً لكنه اُسْتَغِلَ، وما يحدث الآن، هو عين الماضي
من لحظة العودة التي تترقبها الزوجة كلَّ يومٍ، يبدأ السارد رصد الحياة اليومية والاعتناء بالتفاصيل الدقيقة. فيبدأ السَّردُ عن الزوجة، عندما تستيقظ، وخيالها سارح حيث صوت الزوج وهو ينادي على بيضاته التي يبيعها، ثم يتابع السَّرد حركتها في داخل البيت، بما في ذلك العابر والمهمّش، فيتابع هيلانة أثناء طهوها، وإرضاعها لطفلتها، وحديثها لجيرانها، ومراقبتها للدجاج، وسقيها للأحواض، ثم جلوسها انتظاراً لحنا، وكإننا إزاء سرد يقوم على عنصر المفاجأة للقارئ، حيث السؤال: ماذا سيحدث بعد هذا ؟ العجيب أن خبر النفي والترحيل (للزوج) يأتي متقدماً، ومن ثم فعنصر المفاجأة مفقود، ولذا يأتي السؤال ما دلالة تتبُّع اليومي والانتظار والترقُّب ؟ الحقيقة أن عنصر المفاجأة سيتحقق على مستوى شخصية هيلانة، أما بالنسبة لنا فهو ليس بمفاجأة. ولذلك فتركيز السرد على هذا الجانب ورصد التفاصيل الخاصة بهيلانة، هو بمثابة مقاومة لما هو قادم، وهو ما يتحقق بعد ذلك، حيث لم تستسلم لمطاردة يعقوب لها على مدار سبع سنوات، ومارست حياتها، ورعت ابنتها بربارة التي كانت تنمو في خط موازٍ لغياب الأبِّ. فإعدادها للطعام وإخبارها للجيران بأن حنا يحبُّ السبانخ المحشو، كأنها تريد من جانب أن تواصل حياتها اليومية التي اعتادت عليها، أما الحدث الجلل الذي حدث عند المرفأ، فليس في حسبانها، فالزمن كما تريده هي لا كما ينسج تفاصيله القدر، الذي يعبث بكل ما أعدت له وجهزته، فما أن يحلَّ الوقت لا يأتي من استعدت له
الشيء الثاني، أن سرد المعيشي واليومي، سيكون بمثابة سدَّ لثغرات السَّرد، الخاصة بشخصية 'حنا '، والتي لا نعلم عن حياته السَّابقة شيئاً، فتسرد هيلانة عن عاداته كل يومٍ وكيف في كثير من الأحيان يمرُّ في الظهر ليستريح، وهو ما يتكرَّرُ بعد ذلك عند حديث حنا نفسه عن عمل أبيه يعقوب الوقاد، وكيف كانت نهايته، بأن تفحم دون أن يشعر به أحد، وهو الشخص الذي كان عمله من أجل الآخرين، وهو ما يظهر في الوحدة المعنونة بـ 'يعقوب الوقاد' في إشارة بالغة لحالة المهمشين، وهو ما تكرَّر بعد ذلك بعد غياب حنا، فبقيت الليل بطوله تنتظر الغائب، ولم يلتفت لغيابه وحالها الجيران إلا مع طلوع الشمس. لكن الشيء الملاحظ، أن السرد ما أن ينتهي عند هيلانة، وهي تفكر في مصير الغائب، حتى يبدأ بمتابعة ما حاق بحنا في المنفى، وهو خافٍ عليها فمثلاً تنتهي الوحدة المعنوَّنة بـ 'هيلانة 2' بلوعة هيلانة على حنا عند سؤال جارتها : 'خير ؟' وجوابها بأن 'حنا، حنا تأخّر كثيراً' لتبدأ الوحدة المعنوَّنة بـ 'قلعة بلغراد 'وكأنها إجابة تفسر أسباب هذا الغياب' رموه في قبو تحت الأرض، وظل زمناً
لاي
عرف أين هو ؟

زمن الغياب / زمن الموات
إذا كان النص قائماً على المزاوجة السَّردية بين التاريخي والمتخيل، فإن الشَّيء الذي يميز مزاوجة السرد هو الزمن، فعلى الرغم من أن الزمنين متدخلان إلا أن أحدهما يسير بطيئا، والثاني يسير سريعاً، فزمن بيروت ( حيث الزوجة ) زمن يكاد يكون ساكناً، أما زمن رحلة بلغراد فهو متطور. فمثلاً يبدأ زمن بيروت بهيلانة وهي تستيقظ من النوم لتبدأ يوماً جديداً، وهو نفس الزمن الذي تبدأ فيه رحلة حنا إلى المنفى، ومع هذا فالسفينة تقلع بالمحابيس إلى بلغراد، ويظل زمن هيلانة، متوقفاً ساكناً، حيث تستيقظ من النوم، وتبدأ رحلتها اليومية في أعمال البيت، ثم يبدأ السرد المتلاحق لحنا في النمو والتطوُّر، فيتابعه في قاعة بلغراد، ثم الخروج إلى جنة الدانواب، وقيامه مع المحابيس بأعمال الهانم، وهو زمن بعيد نسبياً عن زمن مغادرة حنا مرفأ بيروت، وفي المقابل الزمن المتابع لسرد هيلانة، نراه واقفاً حيث زمن بداية الرحلة، فمازالت الزوجة في بداية يومها، ثم يحل عليها المساء، ويتأخر حَنا عن موعده، ثم في وحدة سردية، ملاحظة الجيران لغياب حنا وسؤالهم هيلانة عن أماكن عمله، ثم في وحدة ثالثة، قيام أسرة جارتها أم سمعان بمشاركتها البحث، هكذا يأخذ السرد في التتابع
وهو لم يكسر بعد زمن اليوم الواحد، في حين زمن بلغراد، قد يفوقه بشهور، مع إن السرد في بيروت هو تالٍ للحدث الذي وقع وذهب ضحيته حنا، ومع أن الزمن الواقع على هيلانة زمن نفسي أكثر من كونه زمناً فيزيقياً، فالمدة الزمنية التي غاب الزوج فيها عن البيت توازي بالزمن الفيزيقي يوماً واحداً، لكن تأثير الغياب كان فادحاً، فقد تجاوز هذا الزمن بكثير، وهو ما بدا على ملامحها تأثيره، فما أن رأتها جارتها أم سمعان عند الفجر واقفة عند الحيطان تنتظر الغائب، حتى ذهبت إليها فوجدتها
'حافية القدمين تكاد لا تبصر من شدة احتقان عينيها..
مرت الثواني طويلة كساعات '(ص 66). بينما يتوقف زمن هيلانة عند اليوم الثاني ورحلة القديس بطرس للبحث عنه، يتقدم الزمن الخاص بسجناء بلغراد، بل إن حسابات الزمن لدى هيلانة حسابات بطيئة ونفسية أكثر منها فيزيقية، في حين أن الزمن الآخر زمن المحابيس يطوي الأيام طياً فهكذا يقع: '.. مرَّت الأيام عليهم ثقيلة وطحنت عظامهم' ( ص 71) وقد يعمد الزمن الآخر في بلغراد على ما سمى بالمجمل عند جيرار جينيت، حيث يختزل أحداثاً طويلة في جملة واحدة فيقول 'زمن طويل مرَّ لكن ماذا حدث في هذا الزمن
( ص 121 )
التفاوت بين الزمنين مقصود، رغم أن الحال يقول إن الزمن التالي (أي أحداث بيروت) زمن مترتب على الزمن الأول (زمن محابيس بلغراد)، ومتلاحق معه، لكننا نلاحظ أن الزمن ساكن ونفسي أكثر منه فيزيقياً. فالحدث والزمن يسيران ببطء في الجزء الخاص بهيلانة، لأن المؤلف أراد أن يرسم أو يعكس البعد النفسي الناتج عن الحرب، وذلك الدمار الذي خرَّب النفس وأصابها بالأمراض، وكَسَرَ النفس وأذلها (لاحظ عمل هيلانة بعدما فقدت عودته في بيت بسترس، تغسل الثياب وتكنس وتمسح) أو تبدُّل الشخصية إلى النقيض كما هو حال شخصية هيلانة التي تحوَّلت إلى شخصية أخرى وربما كان لدلالة نهاية الرواية بأن حنا بعد عودته، وغيابه على مستوى الواقع والزمن الفعليين مدة 12 سنة، ثم ما أن يصل إلى البيت ويرى صورة بربارة، ويظنها هيلانة، ويشعر أنها هي كما تركها لم تتغير، ما يوحي بأن المؤلف أراد أن يخفف من وطأة الصدمة التي ستنتاب حنا عندما يرى هيلانه، فلم تعد كما كانت، مثلما تغير كل شيء، لا بفعل الزمن الذي أدار دورته بربارة على فصارت في حجم الأم، وشكلها، وإنما بفعل الأثر النفسي الذي خلَّفه الغياب، وهي إشارة واضحة لتأثير الحرب الفادح، ربما كان هذا أثرها على من لم يشتركوا فيها، فما بالنا بمن اشتركوا فيها واكتووا بأتونها ؟! التفسير الثاني، ربما أراد المؤلف أن يعكس بطء الداخل / المتوازي معه زمن هيلانة، في مقابل سرعة الخارج، حيث الأحداث متلاحقة، والدولة الكبرى آخذة في السقوط دويلة تلو الأخرى. وهو بمثابة انتقاد للواقع العربي، الذي دائماً يصير مفعولاً فيه، وليس فاعلاً

الحضور / الغياب
يعمد النَّص في كثير من أجزائه إلى ثنائية الحضور والغياب، فدائماً الشخصية الغائبة تُسْتَدعَى، وقد يأتي حضورها عبر تقنيات متعدِّدة يعمد إليها السَّرد، من هذه التقنيات: الحُلم، والتخييلات، فشخصية بربارة طفلة 'حنا' الصغيرة، رغم عدم تواجدها في سجن بلغراد أو قلعة بلغراد أو غيرها من الأماكن، التي اقتيد إليها أبوها في هذه الرحلة المشؤومة، ومع هذا فهي حاضرة، تطل بصورتها الطفلة التي تركها عليها أبوها
فليس في الذاكرة رغم مرور السنوات غير هذه الصورة، وما أن يريد أن يتخيَّلَها صارت كبيرة، لكنه يعجز، وربما هذا ما يفسِّر رؤيته لبربارة عند عودته على أنها هيلانة. ففي أوقات المساء التي يجافيه فيها النوم، يذهب ذهنه بعيداً عبر الخيال إلى ذلك البيت البعيد حيث ترك هيلانة وبربارة ويتخيَّل 'بربارة وقد كَبُرت تحمل مكنسة وتساعد أمها، تتعثر بالعتبة أو تضحك ناظرة إلى الدجاج الخارج من القن'
(ص 128)
يصبح فعل الذاكرة والتخييل اللذيْن أخذَ يقاوم بهما 'حنا يعقوب' أهوال هذه الرحلة الفاجعة، واحداً من الأسباب التي تفسِّر لكونه الناجي الوحيد من ضمن 45 شخصاً سمحوا لهم بالعودة إلى ديارهم، لكن جميعهم رحلوا في حوادث مأسوية، مثل الأخوة عز الدين، الذين قتلتهم الهجمات التي شنَّها الصِّرب على رجال الحامية، ولولا شاهد موتهم 'خير الدين قيس' ما كان أحد عرف. فمثلما كانت الذاكرة والتخيُّل مقاوميْن لفجوات الزمن والسرد في آنٍ واحد، فإنهما على الجانب المقابل كانا بمثابة الأمل في التشبُّث بالعودة، فالكل توقفت ذاكرته عند الماضي، وكأنه لا يريد أن يستمر، مثلما حدث مع الأخوة عز الدين، فدائماً ذكرياتهم عن الماضي، وما أن يبزغ المستقبل أمامهم، حتى ينتابهم الخوف والقلق، فالشيخ محمود ما أن تطل عليه صورة ابنه الأخير كنعان في المنام، حتى'ينتابه خوف شديد، ويستيقظ مرتجفاً'. وبالمثل الشيخ حمد السعدي، يشعر بالخوف الشديد من ألا يرى صورة أبيه مرة أخرى، وفي ساعات كثيرة يتمنى أن يطير إلى البيت ليراه، فيبكي قلبه حُرْقَةً، فينصحه الشيخ مهران 'بأن يتكلم مع أبيه كل يومٍ قبل أن ينام'. ومع استحضاره لصورة أبيه، إلا أنَّ ذاكرته تتوقف عند الماضي فقط ؛ ماضي أبيه، وعمله معه في الكتابة، وقد يوغل في الماضي إلى يوم أن ماتت أمه في حقل الزيتون
نعم، هم استعانوا بالذاكرة لمقاومة جحيم هذا الحبس، إلا أنهم لم يتجاوزوا الذاكرة الماضوية، وما أن تسرح خيالاتهم لزمن ما بعد العودة كما في حالة الشيخ نعمان الأكتع، يسيطر عليه هاجس غريب، بأنَّ أبناءه لا يعرفونه بسبب هذه اليدِّ المقطوعة. إذن جميع هذه الشخصيات باستثناء حنا، يسيطر عليها هاجس ما بعد العودة. وبهذا فمثلما أصابتهم هذه الرحلة المشئومة بالعاهات والأمراض، فإنها في ذات الوقت أحبطت في داخلهم لذات الأسباب هدف العودة، واستمرار المقاومة، فالشيخ وهبي ضرغام الذي قاوم آلام النفي والحبس والبرد، فما أن يشعر بالإهانة من الجندي البوسني حتى يموت. أما شخصية حنا فالذاكرة تزاوج بين الزمن الماضوي والزمن المستقبلي، في إشارة لرغبته بالعودة، ومن ثم كان يجتهد في رسم صورة خيالية لبربارة، تتوازى مع سنوات الغياب والفقد، لكنه يعجز، حتي صورة هيلانة التي تأتيه غاضبة، كأنه بها يهيئ نفسه للقاء ما بعد هذا الغياب، وتلك الآلام التي خلّفها الرحيل المفاجئ. وبالمثل تطل شخصية حنا في غيابه، لدى هيلانة، فما أن يغيب عن البيت حتى يبدأ فعل التذكُّر بعاداته يسيطير على خيالاتها

المنفى وتدمير الذات
يسيطر على النص الشكل الرحلي، وإن كان المنفى هو التيمة الرئيسة. فجميع الشخصيات في النص واقع عليها النفي من سُلطة عليا، بما في ذلك هند بنت الحاج مصطفى مراد فزواجها جاء باختيارها، إلا أنه تحوَّل في نهاية الأمر إلى إجبار وقهر لها ولأبيها، ما أن رفضَ السِّيد خيري السماح لـ 'هند' بأن تعود معه، إذا أضفنا إلى ذلك حالتي القهر والتعذيب اللتين مارسهما عليها، حتى أحالها إلى شخصية أخرى لم يتعرف عليها أبوها عندما فتحت له الباب
ومن ثم فالأثر النفسي الذي انعكس على معظم الشخصيات، كان قاسياً ومؤلماً أكثر من الألم المادي الذي تركه الحبس علي هذه الشخصيات. ومع قبول الكثيرين لأمر النفي، إلا أن 'حنا' ظل على مدار السنوات الاثنتي عشرة عاجزاً عن وجود سبب أو تفسير لما حدث، وظل دائماً يردّد التساؤل القديم، الذي ما فارقه طيفه، وحيَّره عجزه عن الجواب فما أن تطارده أحلام رؤية ابنته بربارة حتى يكرِّر السؤال 'لماذا فعلوا يا شيخ نعمان ؟ ماذا فعلت أنا كي يضربوني ويجروني إلى حبس بلغراد' (ص 166). وظل جواب هذا التساؤل لغزاً له، رغم اعتذارات قاسم ونعمان المتكررة له أكثر من مرة، واعترافهما بأن ما يحدث لهما عقاباً على ما فعلوه بالرجل، رغم أن الواقع يقول غير ذلك، فما حدث، كان نتيجة لصفقة تمت في القشلاق بين الأب وبين إسماعيل باشا، ولم يكن هو مقصوداً بل الصدفة أو قدره السَّيْىء الذي أوصله للمكان في تلك اللحظة الخاطئة. بل قد وصل الإحساس بالقهر وتدمير هذه الذات، بأن رفقاءه في الغرفة، دائماً ما يرونه يبكي وهو نائم. ربما مبعث هذا الإحساس هو ما انتابه من أحلام أو هلاوس ما بعد العودة فدائماً صورة ابنته بربارة لا تفارقه، بل تظل ثابتة رغم مرور هذه السنوات التي تكفي لتغيِّر من ملامحها. وبالمثل صورة زوجته التي لا تتحدَّث إليه بل يراها دائماً 'مريضة ونظراتها غريبة وكأنها لا تريد رؤيته'، وهو ما يزيد إيلامه النفسي، وكأن مسافة وحاجزاً كبيرين يحولان بينهما. فمع الإحساس بالفرح كُلَّما جاءهم بشير بقرب إطلاق سراحهم، تزداد هذه المخاوف. ربما كان التأثير الكبير الذى تركته هذه الرحلة القاسية على شخصية 'حنا' بأن شاخت ذاكرته رغم الاستدعاءات التي كان يلوذ بها من الماضي ليقاوم ما يتعرض له من استلاب ولم تعد قادرة على التذكُّر، فما أن رأى الحطَّابين يصنعون الفحم النباتي في بيت الباشا الجديد، حاول 'أن يتذكر أين ومتى سمع من قبل كيف يُصنع الفحم النباتي لكنه لم يقدر' أو كما يقول الرواي
'لم يعد حنا القديم' (ص 174)، لدرجة أنه يخشى إذا عاد إلى بيته في بيروت ووقف أمام زوجته هيلانة يتساءل : هل تعرفه هيلانة ؟!، وقد صدق حدسه بصورة نقيضة، فعندما عاد مغبراً ودخل البيت فكانت بربارة تجلس فما أن رأته حتى خافت وجرت، وقد ظنَّها هيلانة
العجيب أن تأثير المنفى والحبس أصاب هذه الشخصيات، بنوع من الإحساس الغامض بأنهم لا يغادرون هذا المكان، وقد برز هذا الإحساس الغامض في شخصية الشيخ نعمان الذي جهَّز البيت، وكأنه لن يفارقه أبداً أو طاب له المقام في هذه التغريبة. وما يزيد من آلامه أن تتحوَّل اليد المقطوعة إلى كابوس يلازمه، ويصيبه بأزمة نفسية حادة، حتى أنه ينظر لنفسه على أنه امرأة، ويتعامل مع ذاته على هذا الأساس، فقد تشوَّهت ذاته، وصار في أفعاله يقوم بأفعال المرأة، وكأنه بأفعاله يريد أن يصدق هذا التحول، فيقوم بإعداد الطعام لمجموعة الدروز السبعة الذين يعيشون معه في البيت، ويرتب لهم فراش النوم، كما يقوم بتزيين البيت، إضافة إلى أن أحلامه تتأثر نفسياً باليد المقطوعة، فيخيَّل إليه أن بناته لا يعرفنه، بسبب هذه اليدِّ المقطوعة.
القصُّ الفرعي : والوثائقية .
لا تأتي حكاية مصطفى مراد وبناته الثلاثة، حكاية مجانية، صاغها المؤلف في مروية عن المنفى، وعذاباته، بقدر ما تأتي لتضفي بعداً وثائقياً للسرد الذي يميل إليه السارد في كثير من جوانبه. الشيء الجديد هنا، أن السرد الوثائقي مع كثرته يبتعد عن المعلوماتية البحتة، فإلى جانب المأساة التي يرصدها الرواي، هناك التوثيق الذي يحتفي ويسجل أحداثاً في مناطق جغرافية مجهولة. فيُقدِّم لنا الأمبراطورية العثمانية في عزِّ مجدها، وسيطرتها على بلاد البلقان، وانتشار الحاميات العثمانية، وقوافل التجارة التي تخرج من إسطنبول إلى مختلف أمصار الإمبراطورية، ( ولذا فحكاية مصطفى مراد ليست حكاية مجانية ). ومن ثم الرواية تجيب عن تاريخ دروز بلغراد ! وكيف وصلوا إلى هذه الأماكن ؟ وفي ذات الوقت تقدِّم لنا مظالم الحكم العثماني، وشيوع الرشوة والفساد بين رجاله ( حكاية نازلي هانم وجودت باشا ) ومن قبل فساد إسماعيل باشا الهنغاري. علاوة على ما تقدمه من معلومات مهمة عن عادات هذه البلاد، وطبائع سكانها، وطعام أهل صوفيا حيث لا يأكلون إلا الخبز والثوم، ووعول كوسوفو، وتاريخ وجودها حيث لم تكن موجودة في زمن 'لالا باشا' قائد الجيوش السلطانية التي فتحت بلاد المجر، وارتباط أهل المنطقة بخرافات تمنع صيدها، أو ذكر جبل الموت، وما يحيط به من خرافات تمنع قطع الأشجار للحطب. ومن التوثيق الحديث عن أصل الأتراك المتواجدين في الصرب، يوم أن جاء 'لالا شاهين' بفقراء الأتراك من الأناضول إلى هذه البلاد وأسكنهم أرض الصرب والمجر، في فترة من فترات تسيّد الهلال العثماني، وأيضاً قوافل الحجِّ القادمة من بلاد البلقان، وغيرها من المعلومات التي توثِّق لتاريخ انزوى، ولم يعد له وجود إلا في الكتب التاريخية، فيستحضره المؤلف ويَسْردُه في إطار حكاية يَغْلبُ على كثير من أجزائها التخييل

الوثائقية هُنا متضافرة مع السَّرد، والنموذج الدال هو حكاية 'مصطفى مراد '، وكيف أن السرد وظَّفها أولاً كنوع من التعويض عن زمنٍ بدأ يفقد بريق بداياته بفعل ذاكرة بدأت تصيبها أوجاع المنفى، فجاءت هذه الحكاية كمعكوس لمكانٍ يفتقده حنا يعقوب في بيروت، فيرى في خانات أدرنة معكوساً لخانات أنطوان بيك في بيروت ويستبدل القوافل الشامية بالقوافل البوسنية الخارجة من أكمكجي زاده. وثانياً، تأتي هذه الحكاية كنوع من التوثيق غير المباشر لتوسعات الدولة العثمانية في ذلك الزمن الماضي، ورحلات القوافل التجارية التي تتخذ من إسطنبول بداية لها، ثم تطوف الآفاق، إلى الأمصار الخاضعة لتاج الصدر العالي، في سراييفو والصرب، والبلقان، وموستار وغيرها من الممالك. وفي المقابل انحسار الإمبراطورية العثمانية في بلاد البلقان، حيث الصرب بدأوا يتوغلون في أراضي بوسنيين وأتراك ومقدونين، حتى أن جودت باشا يخشى أن تُحْمَلَ بلغراد إلى إسطنبول بالسُّفن

هذا
التحليل بقلم
ممدوح فـرَّاج النَّـــابي

2012-05-01

المصدر

0 comments:

Post a Comment

قول ولا تجرحـش