Thursday, December 27, 2012

...الفلاح الفصيح...



خرج أحد القرويين
واسمه خر إن أنوب
من قريته بوادي النطرون
لبيع بعض محاصيله في
مدينة إهناسيا‏ ثم يشتري بثمنها
غلالا يعود بها إلي أهله‏
أعدت له أسرته زاد الطريق‏

وحمل حميره بالمحاصيل
وسار في طريقه حتي أصبح
علي مقربة من مدينة إهناسيا
لكن في أثناء سيره
رآه من بعيد شخص يسمي
تحوتي نخت وكان من أتباع
رئيس مديري القصر الملكي
ومن أقرب الناس إلي الملك الحاكم
ولما تفحص تحوتي نخت
ذلك القروي بحمولته الضخمة

 أضمر له شرا وعزم علي
اغتصاب بضاعته
وساعده في ذلك ان بيته
كان قريبا من جانب الطريق الضيق
وكانت حقول رئيس مديري القصر الملكي
التي يشرف عليها علي أحد جانبي الطريق
وعلي الجانب الآخر ترعة كبيرة
أمر تحوتي نخت أحد خدمه
فأحضر له قطعة من القماش
فرشها بعرض الطريق
فوصل أحد طرفيها إلي
الشعير المزروع في الحقل
وتدلي الطرف الآخر
في مياه الترعة وعندما اقترب القروي
حذره تحوتي نخت من أن تدوس حميره
علي النسيج فخضع القروي للأمر
وأجابه سمعا وطاعة وقاد حميره
علي حافة الجسر من ناحية الحقل
وفي أثناء سيره مال أحد الحمير
وأكل شيئا من الحقل وعند ذلك
قال تحوتي نخت إنه سيستولي
علي ذلك الحمار ثمنا لما أكله
صرخ القروي سائلا
هل من العدل ان يأخذ حماره
مقابل قبضة من الشعير ملأ بها فمه؟
ثم استطرد قائلا: إنني أعرف صاحب
هذه الضيعة إنها ملك
رئيس مديري القصر
أنه هو الذي يقف في وجه اللصوص
في أنحاء البلاد فهل أسرق في ضيعته؟
عند ذلك نهره تحوتي نخت
وأخذ غصنا من شجرة وأوسعه ضربا
وأخذ كل حميره وساقها إلي الضيعة
بكي القروي بكاء مرا ولم يتركه
تحوتي نخت وشأنه وأمره بالسكوت
لأنه علي مقربة من معبد أوزوريس
ولا يصح أن يزعج العالم الآخر
فصاح في وجهه القروي: ضربتني
وسرقت متاعي وتأبي
!!إلا أن تأخذ أيضا الشكوي من فمي
وظل القروي المسكين عشرة أيام كاملة
يستسمح ويستجدي ظالمه دون جدوي
ولما يئس سار في طريقه
إلي العاصمة ليشكو تحوتي نخت
ووصل فعلا إلي رئيس مديري القصر
الذي كان اسمه رنسي وطلب منه
أن يستمع إلي شكواه وأرسل رنسي
تابعه إلي القروي كي يستمع إلي القصة
بحذافيرها ثم رفع رنسي الأمر إلي القضاء
لكن القضاة لم ينصفوا القروي
وقالوا إنه لابد أن يكون
أحد فلاحي تحوتي نخت
الذين تركوا العمل عنده وذهب
ليعمل عند الآخرين
وأن ما حدث له هو ما يستحقه
أي قروي يفعل ما فعله وأضافوا
هل يعاقب النبيل تحوتي نخت
بسبب كمية تافهة من النطرون والملح
وهي كل بضاعة القروي
وإذا أردت أيها الأمير رنسي
أن تعوض القروي عنها فعوضه
دون معاقبة تحوتي
لكن الأمير رنسي لزم الصمت
ولم يرد علي القضاة
ولا علي القروي
ولم يعاقب تحوتي
ولم يحبط القروي أو يستسلم
جاء مرة ثانية ليشكو
وصاح مخاطبا الأمير رنسي
في بهو قصره ومذكرا له باليوم الآخر
وهو يطلب منه أن يقيم العدل في حياته
حتي ينال العدل بعد موته
وفي مرة تالية قال له
إنك أبو اليتيم وزوج الأرملة
وزوج المرأة المهجورة
ودثار من لا أم له
وأعجب الأمير رنسي بفصاحة القروي
فذهب إلي الملك وقال له
سيدي لقد وجدت واحدا
من هؤلاء القرويين فصيحا بحق
لقد تعدي عليه أحد رجالي
وسرق ما معه وجاء إلي يشكو من ذلك
ففتنت من بديع كلامه
فنصحه الملك بأن يجعل ذلك القروي
يطيل إقامته ليستمر في الشكوي
وأمره أن يكتب كل ما يقوله
حتي يستفيد الشعب من فصاحته
وفي الوقت ذاته يعني بأمر زوجة القروي
وأطفاله فيرسل إليهم ما عساه
يكفي لقوتهم وأن يعني أيضا
بأمر القروي نفسه
ويرسل إليه الطعام دون أن يعلم
بأنه هو الذي أمر بترتيب ذلك له
وجاء القروي مرات أخريات
وفي كل مرة كان يلقي بشكواه
بأسلوب فصيح يملؤه
بالاستعارات والتشبيهات
حتي بلغت شكواه تسعا
أبدع فيها وكانت كلها تدور
حول العدل ومسئولية الحاكم
عن الدفاع عن المظلوم
ومساوئ الطمع والتكبر علي الناس
وفي آخر شكواه التاسعة
يئس القروي تماما من تحقق العدل
وصمم علي قتل نفسه
وكتب يقول: إني تواق إلي الموت
كما يتوق الظمآن عندما يقترب من الماء
وكما يتوق الرضيع إلي لبن أمه
وعند ذلك أمر الملك نائبه
بأن يتولي هو الحكم في القضية
فأرسل إثنين من الشرطة
لإحضار تحوتي نخت
وأرضي القروي إذ عوضه عن كل ما فقده
كما انتقم له ممن ظلمه دون وجه حق
فأعطاه كل ما كان يمتلكه تحوتي نخت
وانتهت تلك القصة البديعة
بما كانت تدعو إليه الشكوي
وهو حماية الفقير من الغني
وأن يكون الحاكم سياجا يحمي الضعيف
من عسف القوي وألا يعتقد الموظفون
أو الذين ينتمون إلي ذوي النفوذ
من بين الحكام أنهم يستطيعون
أن يظلموا المساكين
دون أن تنالهم يد العدالة
*****
هذه البردية تسمي باسم
بردية القروي الفصيح
وقد كتبت في أواخر سنوات الأسرة العاشرة
التي حكمت مصر من عام2262 قبل الميلاد
حتي2123 ق م أي من ما يقرب من4100 سنة
وكان العالم الأثري شابا أول من لفت إليها
الأنظار في عام1863 وقد ترجمها
الأستاذ سليم حسن
في كتابه المهم
الأدب المصري القديم
******
قلم
مكاوى سعيد
الأهرام الثقافى


0 comments: