Monday, April 23, 2012

......سميح وبشير وغريب....

 «نحن الذين يموت أفضلنا، ليحيا الآخرون»
بيت شعر بقى فى الذاكرة طويلا لشاعر تركيا الكبير ناظم حكمت، ولعل سر بقائه هو صموده ليس لامتحان الزمن وحده، بل لامتحانات الواقع الذى يكشف لنا أن ذلك لم يكن مجرد بيت شعر، وإنما مطلب ساطع ينبغى أن تشخَص له الأبصار وتخشع الضمائر، وتتحرك على هديه إرادات من بقوا على قيد الحياة بفضل شهادة الراحلين، لعل نزيف البشر الأفضل بيننا يتوقف، ولعل تستقيم الحياة، فرب الحياة لم يخلقها معوجة، بينما نحن هاهنا قد طال بنا الأعوجاج، فنهر استشهاد أفضل من فينا لايزال يتدفق ويفيض، دون أن نرى للحياة اعتدالا حقيقيا. فإلى متى؟ منذ أيام قرأت ضمن متابعات كارثة حريق شركة النصر للبترول بالسويس عن الشقيقين بشير وغريب اللذين اجترحا مأثرة ملفتة وهما يستبسلان فى إطفاء نيران الشركة التى يعملان بها، وفى قصة استشهادهما معانٍ للأصالة والنبل والشجاعة تقطع بأن الشعب الذى يضم بين جوانحه مثل هذين الشقيقين، جدير بأن يتسنم موقعا أرقى وأفضل مما هو فيه بكثير، فلطالما استمرأ بعضنا مقولة أننا شعب يفتقد فضيلة الانتماء، ويحاجج على ذلك بمثال مناقض مما جاء فى كتاب «اليابان التى تستطيع أن تقول لا» لمؤلفيه: إيشاهارا الذى كان أحد وزراء النقل السابقين وأكيو موريتا أحد مؤسسى شركة سونى، فيذكرون قصة العاملة البسيطة التى شغلت نفسها بما يثار عن عيب فى انتاج مصنع الرقائق الإلكترونية الذى تعمل به، وقد فشلت إدارة المصنع فى الوصول إلى سبب حدوث هذه الشائبة بعد مراجعة كل مراحل التجهيز والتصنيع لهذه الرقائق، ولأن العاملة اليابانية الصغيرة كانت لا تكف عن التفكير فى مشكلة مصنعها، فقد لاحظت أن هناك قطارا يمر بالقرب من المصنع، وأن اهتزازات الأرض التى يسببها مرور القطار ربما تكون سبب العيب الذى يتحدثون عنه، ونقلت العاملة ملاحظتها لإدارة المصنع التى تعاملت مع الملاحظة بجدية، وبعد البحث والتدقيق العلميين، ثبت أن اهتزازات مرور القطار هى بالفعل سبب حدوث عيوب التصنيع فيما ينتجونه من رقائق، ولأن إبعاد سكة مرور القطار عن المصنع كانت شبه مستحيلة، فقد حفروا خندقا حول المصنع ملأوه بالمياه لامتصاص الاهتزازات المترتبة على مرور القطار، وبالفعل تخلص منتج المصنع من العيب الذى كان به، وشغل موقع الصدارة العالمية فى مجاله. فهل لنا فى مثل ذلك؟ نعم وأكثر، فعندما حدث الانفجار والحريق الأول فى حوض الزيوت لتصنيع البترول بشركة النصر بالسويس، كان هناك الفنى السويسى الصعيدى بشير سعد بشير عضو مجلس نقابة الشركة، ولم يحاول الهرب من النيران لينجو بنفسه، بل اندفع بكل كيانه ليشارك فى إطفاء الحريق وكأنه يطفئ حريقا فى بيته، وكان أن لقى حتفه تاركا خلفه زوجة وطفلين. وقبل أن تمر ذكرى الأربعين على رحيل بشير، حدث الحريق الثانى فى الشركة نفسها التى يعمل بها «غريب» الشقيق الأصغر لبشير، ولم يدفعه موت شقيقه للفرار من النيران وهو أب لطفلين توءم وفتاة فى الصف الثالث الإعدادى، بل اندفع بالحمية ذاتها ليساعد فى إطفاء النيران وينقذ ما يمكن إنقاذه، ولقى وجه ربه شهيدا نبيلا كما شقيقه. هذه القصة التى كتبها الزميل «سيد نون» فى الشروق، تشبثت بذاكرتى وأرعشت عواطفى بشدة، وبينما أنا فى هذه الحالة من الانفعال أتانى خبر مروع عن استشهاد الكيميائى الشاب محمد أحمد سميح بطريقة مماثلة لاستشهاد بشير وغريب، ومحمد هو الابن الأكبر للصديق والزميل العزيز الدكتور أحمد سميح، ولست أكتب عن محمد لمجرد أنه ابن زميل وصديق، بل لأنه حالة دالة على المفارقات الفاجعة فيما نحياه، حيث يموت ويضيع أفضلنا بالفعل، ليتواصل مسلسل إفلات المجرمين بجرمهم وتستمر الكوارث، من غرق عبارة ممدوح إسماعيل، وحتى حريق مصنع «الترا اكستراكت» الذى التهم الشاب محمد سميح وشق قلب أبويه وأسرته، وقلوب كل من عرف محمد وهذه الأسرة الطيبة. فى قصة الشهيد محمد سميح ملامح عديدة تلخص بشاعة المفارقات التى أهلكت ولا تزال تهلك مصر، أبوه وأمه من الأطباء ممن كدحوا لربهم كدحا، لم يتربحا من مهنتهما الإنسانية، وتغربا ليستعينا على أعباء الحياة بما يكفل لهم ولأولادهم عيشا كريما دون اضطرار لأن يمدوا أياديهم فى جيوب المرضى الفقراء، وكانت الغربة فى ليبيا القذافى عذابا مؤكدا للطبيب الأب الذى أعرف فيه واحدا من أطيب وألطف خلق الله وأكثرهم اعتدالا ومزجا ما بين فضائل الإيمان الدينى وشرف الموقف السياسى الدنيوى، لكن عارضا صحيا أصاب الزوجة الطبيبة واحتياجات أربعة أبناء فى الجامعة حتمت عليه أن يصبر على الغربة، وعندما احتدمت الثورة الليبية وبدأ أبناء القذافى يحرضون على المصريين، تطوع طبيب ليبى ممن يحبون الدكتور أحمد ويقدرون فضائله، بإخراجه فى مخاطرة حقيقية من دائرة النار سالما إلى مصر. كان محمد أكبر أبناء الدكتور أحمد سميح قد تخرج فى قسم الكيمياء فى كلية علوم المنصورة، وفى الوقت ذاته كان أحد شباب الثورة الذين واجهوا فساد واستبداد نظام مبارك فى أوج غطرسته وجبروته، ثم كان من المرابطين فى ساحات الثورة المجيدة، وظل حافظا لعهد الثورة برغم ما كان يراه ونراه من سطو عليها ومحاولات لقتلها، كما ظل متفانيا فى أداء عمله بمصنع «الترا اكستراكت» لمعالجة المياه الناتجة من حفر آبار النفط والغاز، وهو مصنع قطاع خاص وجد به محمد فرصة عمل رضى بها برغم كل مثالبها، لأنه كان حييا وحساسا كما كل ابن بارٍ يريد تخفيف العبء عن أهله، وهى الحساسية النبيلة نفسها التى دفعته لأن يكون فى الصفوف الأولى مع شباب الثورة. لقد اطلعت على بعض مجريات ما حدث فى هذا المصنع وهالنى ذلك الجشع الذى لابد أنه من ميراث دولة رأسمالية المحاسيب من زمن مبارك، حيث كانت أرض مصر ومكامن كنوزها توزع على من يدفع أو ينفع، ينفع ذلك الحكم لا البلد الطيب ولا أهله، ومن ثم كانت هناك معادلة الشر ذاتها التى طغت على «بزنس» ذلك العهد: أكبر كمية من الأرباح بأقل قدر من الجهد والتكاليف. فمصنع «الترا اكستراكت» الذى يربح ملايين الجنيهات سنويا من معالجة مياه آبار النفط قبل صرفها، ظل يبخل ببضعة مئات من الجنيهات أو حتى بضعة آلاف فى تدعيم وسائل الأمن الصناعى لحماية البيئة والعاملين فى المصنع، ومع حفر المزيد من آبار النفط والغاز فى أرض الدلتا، راح هذا المصنع يستقبل المزيد من المياه لمعالجتها دون أن يطور إمكاناته، ومن ثم زاد تراكم النفوط الطافية فوق المياه فى الخزانات، وصارت أرض المصنع سبخة نفطية يتصاعد منها بخار شديد القابلية للاشتعال، كما أن لوحة الكهرباء كانت قريبة من أحد الخزانات الناشعة والمحاطة بالغازات سريعة الاشتعال، وقد حدث فى المصنع حريق سبق بأسبوع واحد الحريق الأخير الذى أودى بحياة محمد وزميل له اسمه «محمد السيد على» إضافة لزميل ثالث لهما أصيب بحروق خطيرة، وكان يمكن تحاشى كل ذلك بإنفاق بضع مئات من الجنيهات لتدارك أبسط بديهيات الأمن الصناعى، كوضع طوافة تمنع تدفق المزيد من المياه الملوثة بالنفط فى بئر التخزين. لكن هذا كان يتطلب عدم قبول مزيد من تدفقات المياه الملوثة نفطيا لمعالجتها، وهذا مستحيل بالطبع فى عرف مبدأ التربح الفاحش: اكسب أكثر وانفق أقل، وليحترق البشر. إن ما يحدث لشبابنا شديد البشاعة، سواء تم قتلهم فى الميادين أو الشوارع أو مدرجات كرة القدم أو محارق الفساد ومواقع العشوائية وساحات الضحك على الذقون، وأعنى بذلك كل شبابنا من إخوان وسلفيين وليبراليين واشتراكيين وثائرين بالفطرة وبحمية العمر الجميل، فهم جميعا أفضل من فى هذه الأمة صدقا وحقا، لهذا أتمنى عليهم ألا يكونوا أداة فى يد الكبار المتهافتين على القوة فوق أجسادهم ودمائهم وصدقهم، فأمة تستسلم لنزيف شبابها واستنزافه لن يكون لها أمل فى حاضر ولا مستقبل، وستنتهى إلى قرية ظالمة ينعب بومها فوق أطلال الماضى، وهذا مما لا يليق بأمة كمصر التى فيها شباب كمحمد سميح وبشير وغريب وملايين غيرهم. وإذا كانت فتاة يابانية صغيرة عبرت عن صدق الولاء لمصنعها قد اتخذها اليابانيون مثالا على أمة تستطيع أن تقول لأعتى قوة على الأرض «لا»، فنحن بمثل شبابنا الذين ذكرت والذين لم أذكر نستطيع ان نقول «لا»، ليس لأعتى القوى الخارجية وحدها، بل أيضا لأبشع قوى الفساد والعشوائية والتسلط والتعصب والإقصاء والفرقة فى الداخل،
 وحينها سنقرأ بيت شعر
 ناظم حكمت على وجهه الصحيح
نحن الذين يموت أفضلنا 
ليحياالآخرون أفضل



مقـــالة بقلم
محمــد المخزانجى
المصــــــــــــدر

0 comments: