Thursday, January 12, 2012

...الحرافيش‏..‏ العدل يستحق كل هذه المشقة







كتبت الدكتورة
‏ مها محمود صالح
حين قرأت الحرافيش أول مرة
عند نشرها مسلسلة بمجلة أكتوبر
في سبعينيات القرن الماضي‏‏
وكنت وقتها في المرحلة الثانوية‏‏
أخذتني حيوات البشر فيها

بينما استعصي علي فهم
جوانب أخري من النص
لكن ذلك لم يثنني عن إكمال الرواية
وتكررت مرات القراءة
فازدادت إضاءات النص وتعمق افتتاني به

والرواية تضم حوالي عشرة أجيال من البشر


وتدور في حارة قاهرية تقليدية
لا تطولها إلا تغييرات طفيفة
بالرغم من مرور الزمن
ويبدو وجود الإنسان فيها واضحا
وغنيا بالتفاصيل التي تصف هيئته الخارجية
ومشاعره الداخلية علي خلفية باهتة
تكاد تكون ثابتة, للرقعة المكانية
التي تدور فيها الأحداث
ويشير محفوظ لمرور الزمن
بتعاقب فصول السنة
أو مواسم الخضر والفاكهة
خاصة عند أي ميلاد جديد فيقول
في أوائل الربيع ونداءات الباعة
تتردد بالملانة والعجور
وضعت عزيزة
طفلا أسموه عزيز و.. و
عندما وفدت الفلاحات يبشرن بالفيضان
ويبعن البلح كانت زهيرة تعاني ولادة عسيرة
وهذا الحضور القوي للزمن
يقابله حضور باهت للمكان الذي لا يتغير
لأن مرور الزمن يرتبط بالتطورات
التي تطرأ علي الإنسان داخليا وخارجيا
وتتكون الرواية من عشر حكايات متتاليات
كأنها موجات متلاحقة في بحر الحياة
كل واحدة منها تحفل بمشاعر وعلاقات متداخلة
وانحسار موجة لايعني اندثارها
بل موجة أخري تتخلق منها بقوة اندفاع جديدة
وجودها منفصل ومتصل في آن بغيرها من الموجات
وتحقيق العدل, هدف الإنسان الدائم
خيط يمتد علي طول الحكايات العشر
فيظهر أحيانا حتي يكاد يتجسد
ويدق أحيانا حتي لا يكاد يبين
ولكنه لا يختفي أبدا

1
تبدأ الحكاية الأولي بطفل لقيط
يجده الشيخ الطيب عفرة زيدان
في الحارة ذات فجر
فيربيه هو وزوجه مع أخيه الصبي درويش
ورغم نشأتهما معا في كنف الشيخ الطيب
كان بينهما فروق واضحة منذ البداية
فالفتي اللقيط عاشور يقوم
بخدمة ولي نعمته وزوجه راضيا
ويجلس عند قدمي الشيخ كل أصيل
يتلقي منه آداب السلوك ويحفظ عليه القرآن
, أما درويش أخو الشيخ فقد
رفض قلبه التعلم فانطلق إلي العالم
غلاما طريا فتربي في أحضان
المرارة والعنف قبل أن يستقيم عوده
قبل أن تتشرب روحه بالصلابة والنقاء
والشيخ الطيب يوافيه أجله
فتعود زوجه إلي قريتها ويبقي عاشور
وحيدا يواجه الحياة
ويود أن يتسلق شعاع الشمس
أو يذوب في قطرة ندي
أو يمتطي الريح المزمجرة في القبو
ويحاول درويش اجتذاب عاشور إلي طريق الشر
بدعوي أن الحياة أقسي مما تتصور
لكن عاشور تمثل نصيحة الشيخ عفرة
لتكن قوتك في خدمة الناس
لا في خدمة الشيطان
وخرج لمواجهة الحياة
بعدما صعقه درويش بأصله المجهول

انطلق عاشور إلي دراويش التكية
الذين طالما دعوه بأناشيدهم
إلي عالم غامض يأسر قلبه
وإن عجز عن فهم مفرداته
ليعرض خدماته عليهم
فتجاهلوا نداءاته وحدثته نفسه
انصرف عن الذين يرفضون
يدك لأنهم في غير حاجة إليها
وابحث عمن هم في حاجة إلي خدماتك
فيعود إلي الحارة ليقدم خدماته
لمن يحتاجها بمقابل بسيط
أو بلا مقابل
ويرفض دعوة كليب السماني
بالانضمام لرجال الفتوة فيجيبه
لا قلب لي علي ذلك
وإذ يطمئن أهل الحارة لأن قوته
لن تستغل ضدهم يعرض عليه
المعلم زين الناطوري أن يعمل عنده مكاريا
فيبدأ ويفيض بحيوية متدفقة
يمتلئ بثقة غير محدودة في قدرته
وصبره وامتلاكه للمجهول
وتتوثق علاقته بالمعلم زين ويتأكد للأخير
طيبة قلبه وإخلاصه رغم هيكله العملاق
فيزوجه ابنته زينب ويهبه الحمار
الذي كان يقوم برعايته
وتمضي به الحياة هادئة فينجب من الأبناء ثلاثة
يكبرون ويعملون في مهن مختلفة
لكن الحياة المطمئنة التي يعيشها عاشور
تضطرب بعودة درويش إلي الحارة
ليبني خمارة تقلب حياة عاشور رأسا علي عقب
فأبناؤه الثلاثة يستسلمون لإغواء البوظة
وتتدهور أحوالهم للأسوأ
فيتقاتلون بسبب فلة الجميلة
ولا تنتهي محاولات عاشور للدفاع
عن استقرار حياته إلا وقد
تزوج فلة وأنجب منها شمس الدين

وتتعرض الحارة لوباء يحصد البشر
وفي خضم الكارثة التي تفتك بالأهالي
يتمثل الشيخ عفرة لعاشور في المنام حيث يقوده
هو وأسرته الجديدة إلي الخلاء
فيقضي ستة أشهر في التأمل والعبادة
ويعود ليجد الحارة خلت من البشر
بعدما راح الجميع ضحية الوباء
وبعد أيام سكن هو وفلة دار البنان
وهي واحدة من الدور
التي كان يتمني دخولها
واستسلما لإغراء الراحة والبذخ
وبدأت الحارة تعمر بالناس والحياة من جديد
وأطلق علي عاشور لقب الناجي
لنجاته من الشوطة وعد من أصحاب الكرامات
وتصرف كأنه صاحب الدار
فساعد الفقراء علي شراء أدوات بسيطة
مثل السلال والمقاطف وعربات اليد
ليعملوا عليها: حتي لم يبق عاطل واحد
في الحارة عدا العجزة والمجاذيب
وشيد عاشور لأول مرة في الحارة
حوض مياه للدواب وسبيلا وزاوية
وللمرة الثانية يعود درويش إلي الحارة
فيداهم القلق عاشور
ويتم القبض عليه بعد أن يعجز
عن إثبات ملكيته لدار البنان
ويحاكم لكنه يحظي بتعاطف الجميع
حتي القضاة ابتسم باطنهم طول الوقت
وكأنما خلق عاشور في السجن من جديد
وبعد خروجه أصبح فتوة الحارة
بفطرته النقية وحبه للخير وقوته الهائلة
وبنيانه الضخم وصورة الأسد المرسومة علي وجهه
كان أنسب شخص في الحارة لتحقيق العدل
لقد استولي علي دار البنان
لكنه استخدم الحياة المرفهة لخير الناس
كما دافع عن نفسه اثناء محاكمته
لم أستأثر بالمال لنفسي واعتبرته مال الله
واعتبرت نفسي خادما له
في إنفاقه علي عباده
فلم يعد يوجد جائع ولا متعطل
ولم يعد ينقصنا شيء
فعندنا السبيل والحوض والزاوية
ورسخ الحكم عليه بسنة
علي ضآلته كعقوبة
صورته كرمز للبطولة في الحارة
وفي عهده بات للفتونة
معني جديد لا يمت بصلة للبلطجة
فالفتوة عاشور يكسب قوته من عمله البسيط
ويعيش في مسكن متواضع تحت الأرض
والإتاوة يجمعها من الأغنياء
لينفقها علي الفقراء والعاجزين
لكن عاشور يختفي فجأة
ولا يعرف أحد هل انضم إلي التكية
أم راح ضحية غدر أو مكيدة؟
يختفي بعدما أرسي قواعد عدل
لم تعرفه الحارة من قبل
وباختفائه يتحول إلي أسطورة

2
وينجح الفتي شمس الدين عاشور الناجي
علي غير توقع من الجميع
في اقتناص الفتونة من رجال أبيه
هو لم يكن عملاقا مثل عاشور
لكنه كان قويا بما يكفي
إضافة لملاحة ورشاقة ورثهما عن أمه
وبقي عاشور بالنسبة لابنه حقيقة أكبر من الأبوة
وباتت هذه الحقيقة محور حياته
ومعقد أمله وسر افتتانه بالعظمة الحقيقية
لذا استجاب لتوجيهات أبيه
ومحاولات تقويمه أثناء حياته
برغم عنف عاشور معه أحيانا
وعمل شمس الدين بعد حيازته الفتونة سائق كارو
وألزم كل واحد من رجاله بحرفته
ولم يغير مسكنه البسيط
رغم محاولات إثنائه عن ذلك
ومضت الحياة به من نصر إلي نصر
واختفي الشر الواضح
لكن الإغراء يظل محيطا به
فتدعوه أمه فلة لاستقطاع شيء من الإتاوت
يرطب به حياته كما تدعوه إليها قمر الغنية
فيستجيب مرة لكنه يقرر الزواج
من عجمية مقاوما الإغراء
ويحاول أغنياء الحارة اجتذابه بحجة الاحتفال بزفافه
لكنه يرفض بحزم قائلا: عاشور الناجي لم يمت
وبقدر حبه واقتناعه بعظمة أبيه
كانت نفسه تضيق بأمه
لإنها تتبدي طموحة ومتمردة
وعندما يقتحم أذنيه كلام عن حياتها
قبل زواجها من أبيه تستبد به الهواجس
خاصة حين تفاجئه بنيتها في الزواج
من أحد أعيان الحارة
ويستبد به غضب مقيت
ولا يتمالك نفسه فيهين الرجل
ويطرده ويجبره علي لزوم داره
وتمخضت الدنيا عن عدو آخر هو الزمن
تزعجه الشيخوخة التي تغزوه
علي هيئة شعرة بيضاء في ذؤابته
ويستبد به العناد فيرفض التنازل
عن الفتونة لابنه سليمان
الذي اختاره لبنيانه الضخم ليخلفه في الفتونة
وربما يرجع عداؤه المبالغ فيه للزمن
إلي رغبة دفينة في تمثل أبيه
الذي اختفي في قمة قوته
, غير مدرك أن عظمة عاشور الحقيقية
كانت في النموذج الذي أرساه
وأن خير ما يمكنه عمله هو
استمرار هذا النموذج
صحيح هو درب ابنه سليمان علي القتال
لكن هل هذا هو كل شيء؟
و يصر شمس الدين علي خوض معركة
مع رجاله ضد فتوة العطوف الجديد
ويخرج منها منتصرا
لكنه سرعان ماتهاوي فاقدا حياته
لتنحسر الموجة الثانية.

3
في عهد الفتوة سليمان الناجي
تعرض العدل لانتكاسة قوية,
فبالرغم من أن سليمان تمثل في
بداية عهده تراث العدل,
إلا إنه كان أضعف أمام الإغراءات
وانزلق في منحدر الملذات
مع زوجته الثانية الغنية سنية السمري في دارها الباذخة
ولم يدرك سليمان أن انتقاله إلي دار السمري
إهدار لقيمة أساسية أرساها الناجي وشمس الدين
وهي أن يحيا الفتوة وينفق ويتزوج بإمكانياته الخاصة
وبعد الخطوة الأولي علي المنحدر
تصبح الخطوات التالية أسرع وأخطر
وهكذا بدأ سليمان يوزع علي رجاله
جزءا بسيطا من الإتاوات
ثم أعطي زوجته الأولي وبناتها أنصبتهن
واستمر تدهور تقاليد الفتونة
فكف عن العمل
وأحل مكانه أحد رجاله,
وكذلك هجر رجاله حرفهم
بعد أن زادت هباتهم
واعتاد ابناه بكر وخضر
الحياة الناعمة وأصبحت التجارة مستقبلهما
بعد أن فتحت لهما أمهما متجرا للغلال
وصارا تاجرين وجيهين
وهادن سليمان وجهاء الحارة
وتناقصت كثيرا عطاياه للحرافيش
وتعرضت أسرته لمحن قاصمة
فتساءل بكر سليمان الناجي تحت وطأتها
يوجد خطأ جسيم ولكن أين هو؟
والخطأ كان في الأنانية والتمركز
حول الذات اللذين اتصف بهما أفراد الأسرة

أول من استبدت به الأنانية زوجة الفتوة
التي هجرته بعد مرضه,
والضلع الثاني للأنانية رضوانة
التي تزوجت بكر
ظنا أنه خضر الذي رأته سابقا في الحارة
فلما تكشفت لها الحقيقة لم تقنع من خضر بالأخوة
وحاولت انتزاع اعتراف منه بالحب
لكنه كان حريصا علي صلة الأخوة
فلم تتردد في الإيقاع بينهما,
فهجر خضر الدار
لكنها ظلت علي جفائها لزوجها
أما بكر فابتلي بزوجة لا تحبه
رغم هيامه بها
فاستغرقته هذه الحالة
ولم يجد وسيلة لمواجهتها
إلا الإنفاق عليها بسخاء ليشتري حبها
وأنفق ثروة ضخمة في شراء تحف ورياش
يزين بهما داره متعددة الطوابق
بدون الشعور بمسئولية كأحد أحفاد عاشور الناجي
تجاه حرافيش اكتظت بهم خرابات الحارة
وتنحسر الموجة الثالثة
بانطواء صفحة هذه الأسرة
بهرب سنية السمري مع عاشق لها
وإفلاس بكر وهروبه
بعد محاولته قتله زوجته وأخيه
ورضوانة يقتلها أخوها بعدما اعترفت
بحبها لخضر شقيق زوجها
وهذه الحكايات تطرح مفاهيم مهمة
حول بحث الإنسان عن السعادة
وعلاقتها بالحب والنجاح والمال
وهو ما بدا أن خضر وقف أمامه مليا
خلال سنوات غيابه عن الحارة حيث
وعي الكثير مما فات أهله
فشق طريقه في الحياة متلفعا بجهده الخاص
وأدرك أن: الناجي معني حي
أما السمري فلا وزن له
وأن البطولة الحقة مثل المسك
تطيب بها النفوس وتهفو إليها الأرواح
ولو لم تؤت القدرة علي استعمالها

4

وأراد سماحة بكر الناجي استعادة عهد الناجي
فانضم إلي الفتوة الفللي
استعدادا لمعركة مرتقبة
لكن الفتوة كان حذرا
وأراد اختبار ولائه
فاختار محبوبة سماحة لتكون زوجا له
وتظاهر سماحة بالقبول وهو يدبر للهروب بمحبوبته
لكنه فوجئ بقتلها وانكشاف سرهما
فهرب متهما بقتلها
فهل أخطأ سماحة بمداهنة الفتوة
ثم بالهرب بعد ذلك؟
أم كان عليه أن يواجه التحديات
مثل عاشور وشمس الدين
أم أن خطأه الحقيقي
هو استسلامه للخوف
الذي أفقده كل شي,
وبهذا تنحسر موجة جديدة

5
وتحفل هذه الموجة( الحكاية) بأمواج( بحكايات) صغيرة
متداخلة, حيث يقتل
خضر الناجي علي يد مجهول
وإن أضمر الجميع أنه الفتوة وحيد
ابن الهارب سماحة الذي قفز علي الفتونة
ويأمل الحرافيش في عودة فتونة الناجي
لكن سرعان ما يخيب أملهم بعد استسلام
وحيد لإغراء الثروة والسلطة
وولعه بالخمر والمخدرات وزاد ذلك
أن جاهر بشذوذه بعدما كان سرا
وفي خضم هذه الموجة يكشف لنا محفوظ
كيف يمكن للحب أن يرفع الإنسان إلي الذري
أو كيف تهوي به الكراهية إلي الحضيض
حيث بقي آل الناجي منغمسين
في مشكلاتهم الشخصية,
غير آبهين بمعاناة الحرافيش
حتي حين عادت الفتونة
إلي آل الناجي علي يد وحيد
الذي أقام فتونته علي الحلم مستمدا قوته من جده
وعندما قفز إلي الفتونة تنكر
لكل ما أرساه جده من مبادئ
ها هي ذي الشيخة ضياء أرملة خضر الناجي
تطوف الحارة بمبخرتها باكية
والخمار يسأل ضاحكا
رجعت الفتونة إلي آل الناجي
فلم تواصل المرأة المجنونة البكاء؟

6
عنوان هذه الحكاية شهد الملكة,
وهو يشير بوضوح إلي الشبه بين بطلتها
زهيرة والنحلة الملكة التي تدور حولها ذكور النحل
لكن الفرق بينهما أيضا كان واضحا
فعلاقة ملكة النحل بالذكور تنتج عسلا مفيدا,
لكن علاقة زهيرة بمحبيها كانت لتحقيق مجدها
وإنزال جمالها منزلة يستحقها
وهي فتاة فقيرة تنتسب لآل الناجي
مات أبوها وهي في السادسة من عمرها
فألحقها عزيز الناجي بخدمة أمه
فلما رآها للمرة الأولي ليلة زفافها
فتنه جمالها الصاعق
وبعدما تزوجت نزلت إلي الشارع تبيع الملبن
وبراغيت الست تكشفت لها ذاتها
وأدركت سحرها المؤثر علي الناس
فبدأت تتغير بثبات وإصرار
ونمت ثقتها بنفسها وسكنها تمرد
علي حياتها واستبدت بها
رغبة قوية في تغييرها
ولم تتوان عن استخدام
من تأثروا بسحرها لتحقيق مبتغاها
ولم تكن تدري أن نهايتها
ستكون علي يد أحدهم
وهو زوجها الثاني الذي هرب من الحارة
متهما بالشروع في قتلها ثم عاد فيما بعد
ليقتلها في مشهد مفجع
ومأساة زهيرة الحقيقية بدأت
عندما داهمتها فكرة
أن: قلب المرأة هو ضعفها
وهي لم تحب غير زوجها الأول عبد ربه
لكنها نبذته غير نادمة
لأنه عجز عن تحقيق أحلامها
أما محمد أنور زوجها الثاني
فلم تحبه أبدا ولم يخل وجدانها من ازدراء له
وفاضلت بين الفتوة والمأمور بقدر ما يستطيع
كل منهما أن يمنحها
فلما قتل الفتوة ليلة زفافها إليه
لم تغتم إلا لاقتران زفافها بالفضيحة
لكنها مضت بهدوء تحسب الثروة التي
سترثها منه باعتبارها زوجته
حتي عزيز الذي حققت بزواجها منه
حلمها في الجاه والوجاهة بالإضافة
إلي الثروة لم تحبه
وإنما لأول مرة تجد بين يديها
زوجا تحترمه وتعجب به ولا تفرط فيه
وقتلها زوجها الثاني رغم حبه الشديد لها
باتباع فكرتها: إن قلب الإنسان هو ضعفه
أما وقد مات منه القلب الذي كان يدعوه
إلي إرضائها فلم يبق له إلا تذكر
أنها حطمت حياته فحق
علي حياتها أن تتحطم

7
لا نبالغ إذا قلنا أن شخصية جلال
وهو ابن زهيرة من زوجها الأول
دليل علي مهارة محفوظ في رسم شخصية مقنعة
برغم ما تتميز به من شذوذ
أليس الإنسان نتاج ظروف وعوامل
قد تتصف هي في ذاتها بالغرابة؟
بدأ جلال حياته بمواجهة الموت
في طفولته المبكرة حين اغتيلت أمه
أمام عينيه في مشهد فاجع
ثم خطف الموت محبوبته وخطيبته قمر
صغري بنات عزيز الناجي
فتشكلت تساؤلاته حول الموت والحياة
وكانت شخصيته تتسم بالتحدي
والمشاكسة نتيجة دفاعه الدائم
عن سيرة أمه المحبوبة
وامتلك قوة بدنية, ووسامة ظاهرة
وامتلك تصورا أنه سيكون أول
من يقهر الموت ويحقق الخلود
وربما كان هذا دافعه لتحدي
الفتوة في معركة فاصلة
خرج منها غانما الفتونة

وأحسن الدجال شاور
استغلال طبيعة جلال المتحدية
فوعده بتحقيق التحدي الأكبر
وهو تحدي الموت؟
واشترط عليه اعتزال الناس عاما كاملا
باستثناء خادمه وفي اليوم الأخير
في ذلك العام يتم: الالتحام بينه وبين الجني
ثم لا يذوق الموت أبدا
ربما معتقدا أن جلال خلال تلك السنة
أثناء توحده بذاته
يعاشر الزمن ببطء وجها لوجه بلا شريك
سيدرك أنه لا جدوي من معاندة الموت
وأن الإنسان قد تطول به الحياة
حتي يغترب عنها فيتمني الموت
واشترط عليه شاور الدجال أيضا
أن يبني مئذنة جديدة
ارتفاعها عشرة طوابق, وبدون زاوية
ويموت جلال بعد خروجه من عزلته
يموت مسموما بيد عشيقته زينات
لكنه وهو المتعالي علي الناس بجماله
وقوته, يتحول إلي شيء منفر ملقي
بين مخلفات الحيوانات يشبه في ذلك
حال أمه زهيرة التي طالما
تغني الناس بجمالها وفتنتها

وحين جاءها الموت هاجم جمالها وفتنتها
وحولهما إلي قبح منفر
المفارقة أن عبد ربه الفران
عاش بعد زوجته الأولي زهيرة, وابنه جلال
وتزوج وأنجب ذكرا أسماه خالد, وانقلب حاله
فأقلع عن البوظة ووجد سروره في الصلاة والعبادة
ومحفوظ هنا أراد أن يلفت الأنظار
إلي أن عظمة الإنسان الحقيقية
هي إدراكه أنه مع أن الموت نهايته المؤكدة
فلا يجب أن يكف عن التطور والتفاعل مع الحياة
وإلا فإنه مهما طال به العمر
أو تحصن بالمال أو الجاه يصبح
مثالا للخواء والعقم, مثل المئذنة الضخمة
التي بناها جلال بلا أي معني
وما زال حلم العدل بعيد المنال
مع انحسار الموجة السابعة

8
تشهد هذه الحكاية تكرار ثلاثة أسماء
من آل الناجي السابقين,
هي جلال وشمس الدين وسماحة
لكن ما أبعدهم عن تراث
عاشور الناجي وتقاليد فتونته
الأول جلال أسمته أمه زينات
علي اسم أبيه جلال صاحب المئذنة
طاردته في شبابه لعنة أصله غير الشرعي
في كهولته طرأ عليه تحول غير مفهوم
بعد وفاة أمه فغدا رجل الانحلال والفضائح
وانتهت حياته علي يد ابنه الذي هوي علي رأسه
بكرسي خشبي مدافعا عن أمه
التي أوشك جلال علي قتلها
وشمس الدين ابن جلال وقاتله
لم تخل نفسه من الندم علي فعلته
وإن كان دفاعا عن أمه
وأنجب شمس الدين ابنه سماحة بعد عدة بنات
وأفسده تعلق والدته وجدته به
وساءت علاقته بأبيه لدرجة
تبروء الأخير منه أمام الناس
وجاهر سماحة بكراهيته لأبيه
وأعلن أمنيته أن يموت ليستمتع بميراثه
ويطلب شمس الدين الزواج
من سنبلة ابنة الفتوة
فيطلب الأخير أن يبيع شمس الدين
أملاكه صوريا لسنبلة فيستمهله إلي الغد
ويتمرد شمس الدين علي خوفه
ويعلن رفضه طلب الفتوة
وتبدأ بينهما معركة شرسة
وقبل أن ينزل الفتوة بنبوته
علي رأس شمس الدين بالضربة القاضية
يتدخل سماحة مؤيدا لأبيه
ومعه نفر من رجال خططوا منذ زمن للانقلاب
علي الفتوة ووجدا في المعركة
فرصة لحسم أمرهم
وأنهوا المعركة لصالحهم
لكن شمس الدين دفع حياته ثمنا لها
وأصبح سماحة الفتوة الجديد
وتنحسر الموجة الثامنة
بعودة الفتونة لأحفاد الناجي

9
وبعد عشر سنوات من الفتونة
التي لا تقيم أي وزن لعهد الناجي
يفاجأ سماحة بأخ له اسمه فتح الباب
تأتي به أمه سنبلة أرملة شمس الدين
فلا يجد سماحة من يرعي الفتي
سوي عجوز من سلالة الناجي اسمها سحر
. وكما كان عاشور الأول ابنا للطبيعة
حمله الفجر إلي الشيخ عفرة
كانت الجدة سحر أما لفتح الباب
منحته من حنانها ورعايتها
ما اطمأن به قلبه واستقرت نفسه
وغذته بأسطورة عاشور الناجي
وأحيت في قلبه الصغير
الأمل في عودة عهد العدل

وتعرضت الحارة لمحنة
كما حدث في عاشور زمن الناجي
وهيأت الظروف لفتح الباب
أن تكون الغلال التي فيها
حل أزمة الناس تحت يده
إذ كان يعمل مساعدا لأمين مخازن غلال أخيه
ولكنه يعي أنه يفتقر إلي القوة اللازمة لإقامة العدل
الأمل إذن في الحرافيش
إنهم يتلقون منه هبات من الطعام
ودعما لعزيمتهم يشجعهم علي الخروج علي الظلم
وذات ليلة, قبيل الفجر,
خرج الحرافيش كالجراد, في مجموعات
كل واحدة هاجمت أحد بيوت أفراد العصابة
تنهبه وتضرب صاحبه واندفعوا
إلي مخازن الغلال نهبوها, وحرروا فتح الباب
الذي علقه سماحة في سقف المخزن
بعدما اكتشف أنه يوزع الحبوب علي الحرافيش

وانطلق الحرافيش إلي دار الفتوة
وقذفوه بالطوب حتي سقط علي عتبة الدار
ونادي الحرافيش بـــ فتح الباب
فتوة لحارتهم لكنه لم يكن بالقوة
التي تمكنه من السيطرة علي أعضاء العصابة
الذين حالوا بينه وبين الحرافيش
وعثر علي جثته مهشمة أسفل المئذنة المجنونة
أما الحرافيش فبعد هبتهم التاريخية
استناموا ثانية للوضع القائم
واستكانوا لوطأة الفتوة ورجاله
. نعم هم قوة لا يستهان بها
لكنهم بحاجة لتنظيم وإعداد
حتي يستطيعوا تغيير الوضع القائم
والحفاظ علي الوضع الجديد
وانحسرت موجة أخري
وكانت قاب قوسين أو أدني من تحقيق العدالة
و كاد تاريخ عاشور الناجي وابنه شمس الدين
أن ينتصر, فهل من كرة أخري!!

10
إذن حلم العدل يقترب من التحقق علي
يد سليل عاشور الناجي وسميه
عاشور الحفيد يشبه جده الناجي
في أشياء كثيرة, تأملاته في الخلاء
وحبه للحارة, وتطلعه الدائم للعدل
وولعه بأناشيد التكية
وكذلك ذاق الحفيد مثل جده تقلب
الأيام بين الستر والغني والفقر
وعرف احترام الطيبين
كما عاني سخرية الأشرار ومداهنة المنافقين
وتعرض لمحنة اضطرته للخروج
من الحارة كما فعل جده مما أتاح له وقتا للتأمل والتفكير
ولعبت رؤيا المنام دورها في حياته مثل الجد
حيث رأي جده عاشور يسأله بيدي أم بيدك؟
فقال عاشور الحفيد كأنه فهم قصد جده: بيدي

لكن يبقي اختلاف جوهري
بين عاشور وجده الناجي يتمثل في أن الحفيد
له تاريخ لم يكن الناجي الجد إلا جزءا منه
, فقد اعتمد الجد أساسا علي
فطرته النقية وحبه للخير الذي زرعه
في نفسه الشيخ عفرة ثم علي تجاربه البسيطة
مع الخير والشر وتأملاته التي استغرقته في الخلاء
أما عاشور الحفيد فقد كان وعيه
زاخرا بتجارب البشر قبله
وكان عليه أن يتجاوزها جميعا
حتي يتفوق علي جده فلا يصبح تحقيق
العدل مرهونا بوجود شخص
معين ينتهي بغيابه عن الدنيا
وهكذا عندما حانت اللحظة الحاسمة
عاد عاشور إلي الحارة دون
أن يسلم علي الفتوة أو يستعطفه
فرأي الفتوة هذا تطاولا غير مقبول
ونشبت بينهما معركة شرسة
وفجأة اندفع الحرافيش من كل مكان
تدفقوا كالسيل فاجتاحوا رجال العصابة
في الوقت الذي انتصر فيه عاشور علي الفتوة
. وهكذا عادت الفتونة إلي آل الناجي
ولأول مرة تشكلت عصابة الفتوة
من أكثرية أهل الحارة
وطلب عاشور من الحرافيش
أن يلتزموا بأمرين
أن يدربوا أبناءهم علي الفتونة
حتي لا يضعفوا ويقعوا تحت سيطرة غاشمة
وأن يعيش كل واحد منهم من حرفة
وعاد العدل والنقاء من جديد

وأعلن عاشور في بداية فتونته
أن العدل هدفه الأسمي
وأنه الميزان بين السادة والحرافيش
إني أحب العدل أكثر مما أحب الحرافيش
وأكثر مما أكره الأعيان,
وأيقن أيضا أن الحرافيش قوة هائلة
يجب أن تصان بالعمل, والتعليم
فافتتح كتابا لأبناء الحرافيش
وأقدم علي هدم مئذنة جلال
رمز الخرافة والعقم
وأدرك أن الحب يمكن أن يسمو
بالإنسان إلي الذري والكراهية يمكن
أن تلقي به إلي الثري
وأن الخوف يدفع الإنسان إلي أحضان عدوه
وأن الشيطان ينتصر بالتسلل
من نقاط الضعف فينا وأن هناك
حبين يشكلان أضعف ما فينا
حب المال وحب السيطرة علي العباد

لذا استحق عاشور الحفيد
أن تفتح له التكية بابها الضخم
وللتكية وجود حلمي
إذا صح التعبير
يمزج بين الواقع والخيال
علي طول الرواية,
هي دائما موجودة
لكنه وجود متباعد
يكاد يكون متعاليا
لا يبالي بأفراح الحارة أو أتراحها
هي دائما هناك
يستمد منها البعض الإلهام
ويرون في ساحتها الرؤي
ويذهب آخرون لتلقي البركات
أو إعلان التحدي
البعض تأسره الأناشيد
والبعض تثير غيظه
والجميع لا يفهمونها

إنها رمز الحقيقة
التي لا تسلم نفسها
إلا لمن يجاهد من أجل الوصول إليها
وهو هنا عاشور الحفيد
الذي تساءل كثيرا
عن معني أناشيدهم الغامضة
تري أيدعون لنا أم يصبون علينا اللعنات؟
من ذا يحل لنا هذه الألغاز؟
ويبدو له وهو جالس في ساحة التكية
منفردا بنفسه بعد انتصاره هو والحرافيش
كأن الأناشيد الغامضة تفصح
عن أسرارها بألف لسان
وكأنما أدرك لم ترنموا طويلا
بالأعجمية وأغلقوا الأبواب
وأخيرا انفتح باب التكية الضخم لعاشور
وخرج منه دليل الرضي والقبول
شبح درويش كقطعة متجسدة
من أنفاس الليل يهمس
بالعربية هذه المرة
ويقول استعدوا بالمزامير والطبول
غدا سيخرج الشيخ من خلوته
ويشق الحارة بنوره
وسيهب كل فتي نبوتا من الخيرزان
وثمرة من التوت
استعدوا بالمزامير والطبول





0 comments: