هذا البيت يحمل فيضا من المواهب
وشريطا من الذكريات يستدعيه
صاحبه في خريف العمر
بعد أن لونته السنون
إنه لويس جريس
( مواليد1928)
الصحفي المخضرم والكاتب الكبير
الذي تضيء الابتسامة وجهه في أحلك الأزمات
.. رئيس تحرير مجلة صباح الخير الأسبق..
صاحب الذات الرحيبة المفتوح القلب بالفطرة لكل البشر
.. الصعيدي الذي تخرج في الجامعة الأمريكية
وأكمل دراسته بالولايات المتحدة
مازال يحمل بداخله سطوع شمس الصعيد
في فكره وحماسه المتأجج دائما,
فهو صاحب حالة خاصة من التفاؤل
رسالته في الحياة مساعدة الشباب
والتنحي جانبا لإفساح الطريق
أمام مواهبهم وتمردهم الخلاق
الذي يصنع الإبداع
يعتز بأنه قدم للصحافة
أكثر من عشرين رئيسا للتحرير
وكان أول من نشر
للروائي المبدع د. علاء الأسواني
أولي قصصه القصيرة
تلميذ عمالقة الصحافة الكبار
الذين تلقي عنهم الحكمة
بالأفعال والقدوة الحسنة
لا الكلمات فقط
من لقنوه حتمية الكتابة
بدأب ومثابرة ونظام محكم
دون التخلي عن
العمق والقيمة والمعني في كل ما يكتب
تواضع بين رملائه فارتفع
ضرب بقلمه في الشأن العام بصورة خاصة
وترجم أكثر من خمسمائة قصة
الصعيدي
( الكبير)
زوج الصعيدية
( الكبيرة)
ابنة ملوي الفنانة العظيمة سناء جميل
أيقونة المسرح,
التي صهرتها تجربتها الذاتية الفريدة والوحدة الوثيرة
التي فجرت ينابيع الموهبة من أعماقها
من كان ترتفع في هدأة الليل إلي النجوم
وترتدي إهاب الشخصيات الفنية التي تؤديها حتي في بيتها
فيشدها لويس لضوضاء الأرض
من تنزلق علي الحياة بلا قيود أمام فنها ومعايشتها للدور
فيحتويها الزوج والحبيب الذي يري
أن الزواج هو زواج القلب لا الجسد
ـ ثنائي رائع قلما يجتمع ـ
كانت هي للشدة وهو للين
نصحه أساتذته أن ترويض الفنان أشق من ترويض الأسود
تعلم منها قول الآه عندما يتألم
ـ علي حد تعبيره ـ
وتعلمت منه الصبر
ووجدت فيه مرفأ الأمان..
سناء جميل صاحبة أفضل أفلام
في تاريخ السينما المصرية
حين يتحدث عنها صاحب السعي
والشباب الدائم لويس جريس.. فماذا هو قائل؟
يقال إن الأحلام تولد أحيانا من تصاريف القدر
فإلي أي مدي يمكن تطبيق
هذه العبارة علي مشوار حياتك ؟
يجيب بابتسامته المعهودة
منذ البداية.. نعم منذ ولادتي فكنت طفلا يتيما
توفي والدي وأنا في الشهور الأولي
ورضعت كما يقال في الريف لبن الحزن
وكنت ضعيفا للغاية حتي إنهم تخيلوا
وفاتي وعمري شهور وكدت أدفن
لولا أنني تحركت وشاهدني أحد الأقرباء بالصدفة
فأنا من مواليد أبو تيج
شاءت الأقدار أن تنعم بلدتنا
بوجود مقام السلطان فرغل في بحري البلد
ومقام القديس أبو مقار في قبلي
وكنا نحتفل مسلمين وأقباطا بالمناسبتين
كان المناخ الاجتماعي للصعيد
من التماسك والوحدة بصورة يصعب وصفها بالكلمات
.. فالصعيد كان حالة من نقاء الفطرة والحب والتسامح والشهامة
فكنا نحتفل بمولد سيدي فرغل لمدة أسبوعين
ونسير وراء الجمال التي تحمل المقام
وتتوقف عند أبو مقار للسلام عليه
وتحيته وسط تهليلات وتكبيرات الجميع
حين حصلت علي الثانوية العامة
بمجموع61% انقضي أملي في الالتحاق
بكلية طب الإسكندرية لأنها
كانت تقبل الحاصلين علي61.5% فالتحقت
بكلية العلوم وشاء الحظ أن يكون
د. حسين فوزي السندباد المصري وأستاذ العلوم
هو أول من استقبلنا في الكلية ودعانا
لنتناول فنجان شاي وحدثنا عن الدراسة
وذكر أن الالتحاق بجماعات الهوايات الخاصة
لا يقل أهمية عن الدراسة الأساسية
وأكد لنا أن الهواية لا تعطل الإنسان
ولكنها تساعده علي تفريغ شحنات تزيد طاقته
وقررت الالتحاق بجماعة الصحافة
ويبدو أن الهوي تجاه الصحافة كان مهيئا تماما
بداخلي فسرعان ما جذبتني بشدة وطلبت
من د. حسين أن يرشدني عن الكلية
التي يمكنني استكمال دراستي الصحفية
بها
وترك العلوم
وكانت الجامعة الأمريكية
( قسم صحافة)
فانتقلت إلي القاهرة وكان أخي الأكبر
تاجرا ميسورا استطاع الوفاء
بسداد المصروفات السنوية التي
كانت تبلغ65 جنيها في العام
بالإضافة إلي15 جنيها للمصاريف الداخلية
ولكن هذا القرار ترتب عليه ضياع
سنة من عمري قضيتها في دراسة العلوم
وفوجئت أسرتي يوم التخرج بأسمي
ضمن خريجي قسم الصحافة لا العلوم..
وكان من المفترض أن أعمل بجريدة الأهرام
لأنني كنت الأول علي دفعتي وحاصل
علي لقب أفضل طالب
وقامت الأهرام بدفع نفقات دراستي
في السنة الرابعة
ولكن عزيز ميرزا مدير التحرير رفض تعييني
وظل حلم العمل بـالأهرام يراودني سنوات طويلة
حتي عهد
الأستاذ هيكل
حيث كانت نوال المحلاوي مديرة مكتبه دفعتي
وفي إحدي المرات أثناء زيارتي لها
قال لي يا لويس
( الأهرام لا تطلب ولكنها تطلب)
أي من يريد العمل عليه التقدم والسعي
كان ذلك في أواخر الستينيات
لكنني بعد التخرج مباشرة عملت
بدار التحرير في مجلة التحرير
وكان تعرفي بالصحفي الكبير حسن فؤاد
نقطة تحول حياتي حيث انتقلت معه إلي
دار الهلال وعملت في الإخراج الفني
( لصق الماكيت)..
ثم أخبرني حسن فؤاد بأن هناك
مجلة جديدة ستصدر قريبا
ستكون معبرة عن روح الثورة..
وكانت هي صباح الخير بالطبع
التي اختار لها أحمد بهاء الدين شعارها المتميز
منذ صدورها عام1956
إلي القلوب الشابة والعقول المتفتحة
وعرفني حسن فؤاد بأحمد بهاء الدين
وكان ذلك قدرا من أجمل الأقدار في حياتي المهنية
لأنه أستاذي الأول الذي مازلت أذكره
بالفضائل والمهنية البديعة
ربما لو لم ألتق به لتغير مجري حياتي
عاصرت إذن ولادة مجلة صباح الخير
وأجواء مؤسسة روزاليوسف العريقة
فما الذي تختزله من مواقف وذكريات مع عمالقة الصحافة
في لحظة تتعرض فيه المهنة
لهجمة شرسة تستهدف تقويض أساسياتها ؟
أسرتني شخصية
أحمد بهاء الدين
( رئيس التحرير)..
فأنا أعتبر نفسي تلميذه..
مازلت أذكر بالطبع
يوم صدور العدد الأول
نزلت أنا وصلاح جاهين وحسن فؤاد
والفنانان عبد الغني أبو العينين وجمال كامل
إلي محطة مصر نراقب سفر المجلة
في قطار الصحافة إلي الصعيد ووجه بحري
ونرصد ردود أفعال المواطنين لدي إطلاعهم عليها
وحين عدنا إلي المجلة وبيننا إحسان عبد القدوس
دخلت والدته فاطمة اليوسف وقبل يديها
وقالت لنا: مبروك يا أولاد المجلة نجحت
كان الحماس والشغف بهذا المولود الجديد يملأ الجميع
وأثبتت المجلة شخصيتها ومكانتها
حتي إن صلاح جاهين
كان يقول عنها: صباح الخير يتغني بحبها الطير
فالعمل مع إحسان عبد القدوس ـ
وكان يشغل منصب مدير عام المؤسسة
ورئيس تحرير روزاليوسف ـ
يمثل متعة خاصة
فهذا الأديب الكبير كان يعامل مرءوسيه
مثل أصدقائه تماما يدفعهم بحميمية للعمل
والانتماء للمكان وللمهنة وحدها..
كانت روزاليوسف تضم عمالقة الصحافة
علي ومصطفي أمين قبل أن يؤسسا جريدة أخبار اليوم
وكذلك محمد التابعي وحسنين هيكل
ومايسترو الصحافة كما كنا نطلق عليه صلاح حافظ
وفتحي غانم وعبد الرحمن الشرقاوي
الذي عملت مديرا عاما للمؤسسة في عهده
وكانت تجربة إدارية ناجحة قمت خلالها
بإرساء مبادئ العدالة الاجتماعية
في الأجور إلي أقصي حد
إنهم أكابر المهنة الذين تعلمنا منهم فيضا
من الإنسانية قبل المهنية
فأنا كنت أتردد علي
مصطفي أمين
منذ كنت طالبا بالجامعة
وكان يحرص علي توصيلي حتي باب الأسانسير
لكن بعد التخرج بعث لي برسالة
أنني كنت طالب علم والآن طالب وظيفة
وأعتذر عن المقابلة
لكن فيما بعد كان يرد علي كل تليفوناتي
كان كبيرا بحق
ففي إحدي المرات دخل صالة التحرير
في مجلة آخر ساعة
وكان صلاح حافظ
قد التحق بها بعد تركه روزاليوسف
عقب خروجه من السجن لمدة عشر سنوات
لأنها كانت مرتع الشيوعيين
وتساءل مصطفي أمين
في فضول شديد وإلحاح
عمن وضع هذا العنوان
عذراء الشاشة تضع بنتا
فأشار أحد الزملاء إلي صلاح حافظ
الذي كان يجلس في مقعده ولم يشأ أن يرد..
فأخرج مصطفي أمين من جيبه خمسين جنيها
وأعطاها له مكافأة وكانت رقما كبيرا بمقاييس تلك الأيام..
حيث كان اكتشاف الموهبة
ووضعها علي الطريق الصحيح
أهم من اكتشاف بئر بترول.
نعم. هذه هي سمات ذلك العصر الذهبي
للصحافة إضافة إلي التفرغ والإخلاص التام
لأصول المهنة والسعي في دروبها
بعيدا عن الأهواء والمصالح الخاصة
أهم ما يميز مدرسة روزاليوسف
أنها تحرص علي وجود صلة بينها وبين القارئ
في أحلك الأزمات حين كانت تشتد الرقابة في الستينيات
من هؤلاء الأساتذة تعلمنا
أن الخبر المثير هو الذي يحتوي علي معلومات
لا يعرفها أحد وتتفاوت درجة الإثارة
بمدي ارتباطها بالأشخاص
الذين وضعوها فالإثارة ينصرف عنها القارئ سريعا
رؤساء التحرير كانوا( قادة) يستخرجون
من الصحفيين أقصي طاقاتهم الإبداعية
ويشعلون حماسهم بكلمات التشجيع والتقدير والمكافآت
واذكر أنني عندما سافرت
في منحة إلي جامعة ميتشجان بأمريكا
وكيف سعد إحسان بهذا الخبر
وقال لي: إن السفر والدراسة
لمدة عام يعادلان قراءة ألف كتاب
ولكن من الإنصاف أن نقر بصعوبة
منصب رئيس التحرير في عالمنا العربي
حيث حرية الرأي والديمقراطية
لم تترسخا بعد وقد علمتني الحياة
أن المتعة الكبري يستشعرها
من يكتب مقاله ويسلمه وينصرف دون أدني مسئولية
اشتهرت مدرسة روزاليوسف بالكاريكاتير
وكانت أكبر مدرسة لخريجي هذا الفن في مصر
فلماذا بلغ هذا الفن ذروته في الستينيات
ثم تراجع نسبيا فيما بعد ؟
اشتهرت روزاليوسف بالفعل بحملات موسعة
لكبار فناني الكاريكاتير علي صفحاتها
التي كانت تصدر ممهورة
بأسماء حجازي وصلاح جاهين
وبهجت عثمان وزهدي وعشرات الأسماء اللامعة..
والسبب في ازدهاره في الستينيات
أن الكاريكاتير أحيانا يعادل مقالة سياسية
لما يحويه من نقد لاذع ومعان عميقة
ودلالات سياسية لا يمكن التصريح بها
فكان يتم التحايل باستخدام هذا القالب المحبب
للقراء سواء كان منفردا أو مصاحبا للمقال المكتوب
وكان أحمد بهاء الدين متأثرا
لأن هيكل خطف صلاح جاهين
من روزاليوسف
وكنا نطلق عليه اسم( المنقذ) حين
كان يتم إلغاء مواد صحفية من الرقيب
فهو صاحب مواهب متعددة وأفكاره
لا تنضب يمكنه ملء أي فراغ بإبداع لا مثيل له
ومازلت أذكر ذلك الغلاف الشهير
لعدد من أعداد صباح الخير
بريشة الفنان حجازي حيث رسم دولابا
مفتوحا بداخله شبان معلقون علي شماعات
وفتاة استبدت بها الحيرة وهي تفاضل بينهم
وتقول: تري أي فستان اختار ؟
كناية عن عدم وجود حرية في الاختيار
فثار الرئيس عبد الناصر وغضب غضبا شديد
وفي إحدي المرات أثناء رئاستي لتحرير صباح الخير
ذهبت ليلا إلي المطبعة وأنا في طريقي
إلي المنزل بعد سهرة طويلة
وأنا أقلب في الملازم اكتشفت
وجود صورة للرئيس عبد الناصر بالخطأ
مكان نكتة مصاحبة لمقال محمود السعدني
وشعرت بالكارثة التي كان يمكن أن تؤثر
علي مستقبلي المهني وقمت بتمزيق الملازم
وحمدت الله علي هذه الصدفة التي أنقذتني
مررت بتجربة دراسية في أمريكا
وأجريت حوارا مع كاسترو وآخر مع جيفارا في كوبا
فما الذي ترويه اليوم وتراه جديرا بالحكي ؟
أشياء عديدة بعضها ساهم في تشكيل وجداني
انطلق سبوتنك الروسي إلي الفضاء
فقامت جامعة ميتشجن بتعديل المناهج علي الفور
وتدريس النظرية الماركسية دون أن يروا
في ذلك ارتداد عن الراسمالية
من جهة أخري فقد اختارني أستاذي الأمريكي
للعمل معه في مجلة وكان يقوم بنفسه
لإعطائي الشغل المطلوب إنجازه والخطابات
التي ترد إلي المحررين ويعاملني بود شديد
وكذلك فعلت مع الزملاء حينما أصبحت رئيسا للتحرير
وأضفت بعض الخصال الحميدة
فهذه الفترة الدراسية
بالإضافة لمعاملة عمالقة الصحافة
لنا في شبابنا ووجود كيمياء خاصة
بيني وبين الشباب كل ذلك أسهم
في إثراء تجربتي الصحفية
بتلك المواهب التي ترعرعت
واحتضنتها أو مهدت لها الطريق
وأنا أعتبر أن أجمل أعمالي
التي لم تنشر هي تلك الحوارات
التي كانت تدور بيني وبين الشباب
الذين يفدون للمجلة للتدريب
وأفخر بأنني قدمت لمصر
ما يقرب من عشرين رئيس تحرير
لكل منهم بريقه الخاص
وأعتز بأنني أول من نشر قصة قصيرة
للروائي الموهوب علاء الأسواني
والذي أراه سفيرا لمصر فوق العادة
فيما يتعلق بأمريكا فأنا عاصرت
أسوأ سنوات العنصرية حيث كانت اللافتات
علي المطاعم تمنع دخول السود والكلاب
وشاهدت الحادثة الشهيرة
التي خلع فيها الرئيس الروسي خروشوف حذاءه
في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام1959..
كنت جالسا في شرفة الصحفيين
وعقب انتهاء خروشوف من إلقاء كلمته وعودته إلي مكانه
فوجئنا به يضع حذاءه علي المنضدة
ويحاول إصلاح الفرشة بداخله
أو البحث عن مسمار يضايقه
وفي النهاية كان يحاول إيجاد
حل فوري لصناعة روسية سيئة
وفي الحال انهالت عليه كاميرات التصوير
وأمطرته بوابل من الصور تصدرت الصحف العالمية
وحين وصل الخبر إلي مصر كان قد حرف تماما
وأصبح المغزي من خلع الحذاء
هو ضرب روسيا لأمريكا بالجزمة
في عقر دارها وبدا الأمر تلويحا باستخدام القوة
واسترحنا لهذا التفسير الدرامي
لأننا كنا في شراكة مع الروس
في المشروعات الكبري وعلي رأسها السد العالي
أما لقاء فيدل كاسترو فله ذكريات لا تنسي
حيث سافرت مع منظمة التضامن الأفريقي الآسيوي
وكانت تعمل في هذه المرحلة علي ضم
دول أمريكا اللاتينية وكان في الرحلة عدد كبير
من الأدباء والمفكرين أذكر منهم
محمد عودة وأنيس منصور
وكان من نصيبي الإقامة معه في غرفة واحدة
ولكن بما أنه شخص لا ينام يضئ نور الغرفة ليلا
فقد طلبت الانتقال إلي غرفة محمد عودة
فأطلق علي هذه النكتة: نحن الآن في كوبا حيث يوجد لدينا فيدل كاسترو
وفي ديل محمد عودة ويمسك بطرفه لويس جريس
وقد قابلت كاسترو في البداية بمفردي الساعة الثالثة صباحا
في بهو الفندق الذي كنا نقيم به
لأنه كان يعطي الوفد المصري
مواعيد لإجراء مقابلة صحفية ولا يحضر فانتظرته
وجاء ووجدني نائما علي الكنبة
فأيقظني بصوت جهوري ـأصحي يا مصري
وتبادل التحية وأردف قائلا: أتمني زيارة مصر
لا لمشاهدة الأهرامات ولكن لمشاهدة الفلاح المصري
الذي يزرع أرضه أربع مرات في السنة
لابد أن يكون هذا الفلاح عظيما
وهزتني الكلمات وأسرعت بالاتصال
بالزملاء الذين نزلوا علي الفور
لمقابلته وأجرينا حوارا جماعيا
نشره كل ما بمفرده في صحيفته كان كاستر
و ينظر لثورة يوليو علي أنها ثورة عسكر
وتأتي في المرتبة الثانية بعد ثورة الجزائر بلد المليون شهيد
وفي مقابلة أخري معه قابلنا جيفارا
وعرض عليه كاسترو أمامنا
أن يتولي منصب وزير الصناعة
لكن جيفارا رفض وقال إنه قام بالثورة في كوبا
وانتهي دوره وسينتقل لمكان آخر
يحتاج جهوده وأعتقد أن إخلاصه للفكر الثوري
ومشاركته الثوريين في عدة بلدان
جعل منه أيقونة للثورات حتي يومنا هذا
تزوجت من المبدعة الكبيرة سناء جميل
وزواج الفن بالصحافة يحظي دائما بالشهرة
ويكون محط إعجاب الجماهير
فلماذا لم يرتبط أسمك
بسناء جميل إعلاميا بشكل كاف ؟
لأنني كنت حريصا علي ذلك منذ البداية
فقد ارتبطت بسناء وتعارفنا
وشعر كل منا بالحب تجاه الآخر
وتزوجنا عام1961 وفي التوقيت
نفسه تزوج الصحفي
نبيل عصمت وليلي طاهر
وليلي فوزي وجلال معوض
ثم أحمد فراج وصباح
فقلت لها أننا لن ننشر صورنا
في الجرائد والمجلات وبصراحة شديدة
رفضت منذ البداية أن يشار علي
بزوج سناء جميل لأنها كانت مشهورة
بحكم عملها وقدمت فيلم بداية ونهاية
وأعمالا مسرحية عديدة بل
إن د. طه حسين كتب عنها
مقالا عام1956 بجريدة الجمهورية
وعندما تزوجت صارت الأمور كما أردت
وكان أول ظهور لنا معا في صورة فوتوغرافية
عام1975 في بداية زواجي
تلقيت ثلاث نصائح غالية
من أعظم الشخصيات
فهزتني كلمات إحسان عبد القدوس
لويس: أوعي تكون فاكر نفسك تزوجت مجرد امرأة
!! لا أنك تزوجت موهبة بقدر ما تزدهر
سيكتب اسمك في التاريخ وحذار أن تعاملها
كرجل صعيدي تقليدي فقد تقضي علي هذه الموهبة
أما ألفريد فرج فقد وصفها بالثروة القومية
التي يجب المحافظة عليها وكان د. لويس عوض
صديقا مقربا ويعتقد البعض بالخطأ
أنه زوجها لتشابه الاسم الأول وبدوره
كان معجبا للغاية بأداء سناء جميل ووصفها
بأنها ملكة الأداء المسرحي
ووجهني د. لويس عوض
لتثقيف سناء ليس عن طريق الكتب
لأنها قد تتحول إلي قيود تحد من انطلاقة
التعبير الفطري لدي الفنان وقد تورث
الاكتئاب ولكنه كان يدرك أهمية الثقافة
لاتساع أفق الفنان وتعميق نظرته للحياة
فقد أوصاني بالحرص علي جلوسها
وسط المثقفين القارئين حتي تظل
فطرتها نقية ينعكس علي سطحها
الشخصيات التي تؤديها بنفس الوهج
ولكن هذه الفنانة الكبيرة كانت لها
شخصية متفردة تميزها..
وكانت تبدو بعيدة نسبيا
عن الوسط الفني فما سبب تلك العزلة؟
سناء لها طبائع خاصة
فحين تعرفت عليها حسبتها
في البداية مسلمة
لأنها كانت أثناء مناقشاتي
معها تقول: لا إله إلا الله
وترد علي زميلاتها حين يقلن
صلي علي النبي قائلة: عليه الصلاة والسلام!!
فقلت العائق الوحيد هو اختلاف الديانة
بيننا فأخبرتني أنها مسيحية
وكانت لها ظروف خاصة جدا
فهي من ملوي صعيدية مثلي..
والدها كان محاميا بالمحاكم المختلطة
وبعد إلغائها عام1936 عمل لدي شعراوي باشا
وراتب وسلطان باشا كانت لها أخت توأم
توفيت وهي صغيرة وأخ هاجر فيما بعد
إلي البرازيل وهي في التاسعة من عمرها
حضرت مع والديها إلي القاهرة
والتحقت بمدرسة الميردي يو
ودفع والدها مصاريف سنواتها الدراسية
مقدما حتي التوجيهية وتركها
وسافر والداها إلي الخارج
ولم يعودا إلي مصر مرة أخري
لذلك عندما توفيت في2002 نشرت
خبر وفاتها في الجرائد العربية
ودفنتها يوم ثلاثاء بالرغم من أنها توفيت
يوم جمعه أملا في أن يظهر أحد أقربائها
أو والديها إذا كان أحد منهما علي قيد الحياة.
يبدو أن تلك الواقعة وهذه الظروف القاسية
التي تعادل الشعور باليتم والغموض
كان لها اثر إيجابي في شفافية أدائها..
فالألم من مصادر الإبداع
ولكن ألم تستفسر منها عن هذا السر؟
حاولت مرارا وكانت أحيانا
تفضل التأمل أو البكاء بمفردها
ولا تحب أن يراها أحد في هذه الحالة
وحين سألتها قالت إنها كانت صغيرة
ولا تعرف شيئا ولكن الأمر يشي
باحتمال وجود حادثة أو شئ قاهر
تورط فيه الأب فسير الأمور يظهر
مدي اضطرارهما لفعل ذلك
والله وحده يعلم كم كانت معاناتها
وحساسيتها المفرطة وشعورها
بافتقاد كلمات الاستحسان
من أقرب الناس إليها بعد أن
أصبحت ملء السمع والبصر
وكانت تقول أن الله ارسلني لها سندا وعونا.
من الذي اكتشف موهبتها التمثيلية وألحقها بمعهد التمثيل ؟
في مدرستها كانت تقوم بالتمثيل بالفرنسية
ونتيجة لطول إقامتها في القسم الداخلي
كانت لغتها العربية سيئة في البداية
ولا تجيد التحدث بالعربية بصورة سليمة
معظم حديثها كان فرنسيا
وبعد إتمام التوجيهية ذهبت للعيش مع أخيها
وأخبرها ابن الجيران عن معهد الفنون المسرحية
والتحقت به وحين علم أخوها صفعها بالقلم
وطردها من المنزل ليلة
حريق القاهرة26 يناير1952 فذهبت
إلي أستاذها زكي طليمات وأودعها
في منزل الفنان سعيد أبو بكر واعتنت بها زوجته الإيطالية
ثم أقامت في بيت طالبات وبدأت التمثيل
والاختلاط بزميلاتها سميحة أيوب ونعيمة وصفي
وملكة الجمل ومنهن تعلمت العربية بطلاقة
والصلاة علي النبي!!
أما اللغة العربية الفصحي
فقد استقدم لها زكي طليمات
أستاذا خاصا
وكان عبد الوارث عسر
أستاذهم جميعا الذين يعلمهم
اللهجات الصعيدية والبدوية
لقد تزوجنا بعد فيلم بداية ونهاية
الذي نالت عنه جائزة أفضل ممثلة
من مهرجان موسكو
ورشحها للدور صلاح عز الدين
أحد كتاب سيناريو الفيلم
بالرغم من أن اسمه
لم يكتب علي الشاشة لكنها
فاجأتني بدورها في فيلم الزوجة الثانية.
يقال أن صلاح أبو سيف
وضع بلاستر في قدمها
لأنها رفضت أن تسير حافية
وأصرت علي النوم بجوار القطار
فما هي كواليس هذا الفيلم
ـ الزوجة الثانية ـ ا
لذي اعتبر مع بداية ونهاية
من أفضل مائه فيلم مصري؟
صلاح أبو سيف أخبرها
بأنها لابد أن تمشي
حافية علي( الجلة) مثل
أي فلاحة وتم لصق البلاستر
في قدميها واحتشدت بكل طاقتها
لمشهد القطار وتمددت علي يمينه
لكنها كانت تعتقد أن صلاح أبو سيف
لم يلتقط الصور التي تظهر الفزع
بالشكل الكافي وفوجئت بزوجتي
التي اعرفها جيدا ذات النزعة الارستقراطية
تقوم بهذا الدور البديع كزوجة ريفية
ينطلق لسانها
بـالليلة يا عمدة
بهذه الطريقة الرائعة والأداء الريفي
كما لو كانت نشأت في هذه البيئة
منذ نعومة أظفارها زوجة عمدة بحق.
كيف كانت تتهيأ لأدوارها وهل كانت لها طقوس خاصة؟
يضحك أستاذ لويس ويقول:
كانت تمتلئ بالشخصية وتستحضرها
وتصمم ملابسها وكنت أذهب معها
لوكالة البلح وتقوم بشراء الأقمشة
لأنها كانت تهوي التفصيل بنفسها
وكانت ثقتها بنفسها وطريقتها
في إيجاد مسافة بينها وبين الناس
تسمح لها بذلك وكانت تقول لي:
إنني أشبه عسكري مدرب يحمل سلاحه
يوميا لكي يشق طريقه بين الجماهير.
كانت تريد التفرغ التام لعملها بعيدا
عن المجاملات التي ترهق
وتبدد طاقة الفنان
وكنت أدعوها أحيانا
للسفر إلي باريس للنزهة
فتقول أن نزهتها الوحيدة
هي العمل والحياة في مصر
أفضل وسيلة للترويح عن النفس
أذكر أثناء قيامها بتصوير
مسلسل الراية البيضا
وهي تقوم بدور فضة المعداوي
التي تسيطر علي المنطقة
أنها طلبت مني الذهاب معها
إلي بحري وتناولنا أكلة سمك
ثم قمنا بزيارة بعض السيدات
لرؤية ملابسهن وطوال فترة التصوير
كانت تتشاجر معي وتتحدث بطريقة شعبية جدا
لأنني أتأخر حتي العاشرة
وكان ذلك نتيجة لتأثرها بالدور
وكان ذلك الموقف يتكرر معي ومع آخرين
فهي من الممثلات اللاتي يعشن الدور بكل كيانهن
ولا يمكن التحدث معها قبل صعودها للمسرح
بفترة زمنية فالدور يستغرقها تماما
وللأسف قررنا ألا ننجب أطفالا
وكانت تعتقد أن الإنجاب سيعطل
مشوارها الفني وحين بلغت أنا سن الستين
وأنا أكبرها بثلاث سنوات قالت لي
: لقد أخطأنا يا لويس لعدم إنجابنا أطفالا.
ما الذي كان يؤرقها في حياتها أو فنها؟
كانت منضبطة جدا كزوجة وسيدة بيت تراعي شئونه
كانت تتمني التمثيل أمام أحمد زكي
وأخبرته بأن هذه رغبتها قبل وفاتها فقال لها
: يا نهار أبيض يا ست الكل وأرسل لها سيناريو
فيلمي سواق الهانم واضحك الصورة تطلع حلوة
وكان أعلي أجر وصلت له في السينما20 ألف جنيها
فيما يتعلق بما يشغلها فكان ما بعد الموت
فحين دخل كامل الشناوي في غيبوبة
طلبت مني التعرف عليه وكانت تسأله أسئلة كثيرة
عما شعر به وحين داهمها المرض سرطان الرئة
لم نكن نعلم وكانت تشعر بتغييرات
وترفض الذهاب للمستشفي
واضطررت لادعاء المرض حتي تضطر
للذهاب معي إلي المستشفي وبمجرد وصولي
طلبت الكشف عليها وللأسف كان السرطان
من الدرجة الرابعة وقبل أن تأخذ الكيماوي
سألتني هل مازال وجهها سليما
وقبل أن أجيب بنعم قالت:
عموما إذا لم استطع التمثيل مرة أخري
فسوف أفتح آتيليه وأقوم بتفصيل
ملابس جميلة لسيدات مصر لأنني
اعلم عيوب جسم المرأة المصرية
وسأعمل علي مدارتها
ولكن للأسف غيبها الموت
ومازالت النفس تحمل تفاصيل ذكرياتي
معها وتدعوني لتسجيلها في كتاب وأنا أري
أن أجمل سنوات الزواج عموما هي سنوات آخر العمر
فالحياة مع هذه السيدة ـ
التي كانت جمرة مشتعلة
بالموهبة الفطرية مميزة للغاية لأنها كانت تحاول
التوفيق دائما بين فنها وبيتها
وكأنها تمشي علي حبل مشدود
باسطة ذراعيها وكأنها تعبر جسرا
من العذاب يكابده دائما الفنان الأصيل
أنت صديق الشباب وكنت من أكثر المتفائلين
بالثورة فكيف تري مسارها بعد ما تعرضت
له من انعطافات خطيرة انعكست علي الصحافة؟
الثورة تتضاءل يوم بعد يوما ولابد أن نضع
أمام الشعب نموذجا للتغيير فنحن مازلنا نقضي
وقتا طويلا في مناقشة قواعد اللغة السياسية
ثم لا ننجز شيئا نسير( الهويني) فلابد
أن نسرع الخطي ونتخذ قرارات ثورية
ولا أقصد بها قلب الهرم أو قبول التجاوزات
ولكن الإصلاح فحين كنت في كوبا
في الستينيات أغلق كاسترو الجامعات
لمدة عام لكي يقوم الطلبة بمحو أمية
الشعب هذا نموذج للقرار الثوري
وأن ننشغل ببناء وإصلاح مصر لا المحاكمات
التي لا طائل من ورائها فالحرامي معروف
أما ما ينشر عن الفساد فقد أطلقت عليه صحفيا
فساد النشر عن الفساد فمازال الصحفي المصري
كسولا يعتمد علي التقارير( المضروبة) والحكايات
ولا يذهب لمصدر الخبر لأنه يتبع
أسلوب عبد المطلب هاتوا لي حبيبي!!
حــــوار: ســهير حـلمــي
جريدة الاهرام المصرية
وشريطا من الذكريات يستدعيه
صاحبه في خريف العمر
بعد أن لونته السنون
إنه لويس جريس
( مواليد1928)
الصحفي المخضرم والكاتب الكبير
الذي تضيء الابتسامة وجهه في أحلك الأزمات
.. رئيس تحرير مجلة صباح الخير الأسبق..
صاحب الذات الرحيبة المفتوح القلب بالفطرة لكل البشر
.. الصعيدي الذي تخرج في الجامعة الأمريكية
وأكمل دراسته بالولايات المتحدة
مازال يحمل بداخله سطوع شمس الصعيد
في فكره وحماسه المتأجج دائما,
فهو صاحب حالة خاصة من التفاؤل
رسالته في الحياة مساعدة الشباب
والتنحي جانبا لإفساح الطريق
أمام مواهبهم وتمردهم الخلاق
الذي يصنع الإبداع
يعتز بأنه قدم للصحافة
أكثر من عشرين رئيسا للتحرير
وكان أول من نشر
للروائي المبدع د. علاء الأسواني
أولي قصصه القصيرة
تلميذ عمالقة الصحافة الكبار
الذين تلقي عنهم الحكمة
بالأفعال والقدوة الحسنة
لا الكلمات فقط
من لقنوه حتمية الكتابة
بدأب ومثابرة ونظام محكم
دون التخلي عن
العمق والقيمة والمعني في كل ما يكتب
تواضع بين رملائه فارتفع
ضرب بقلمه في الشأن العام بصورة خاصة
وترجم أكثر من خمسمائة قصة
الصعيدي
( الكبير)
زوج الصعيدية
( الكبيرة)
ابنة ملوي الفنانة العظيمة سناء جميل
أيقونة المسرح,
التي صهرتها تجربتها الذاتية الفريدة والوحدة الوثيرة
التي فجرت ينابيع الموهبة من أعماقها
من كان ترتفع في هدأة الليل إلي النجوم
وترتدي إهاب الشخصيات الفنية التي تؤديها حتي في بيتها
فيشدها لويس لضوضاء الأرض
من تنزلق علي الحياة بلا قيود أمام فنها ومعايشتها للدور
فيحتويها الزوج والحبيب الذي يري
أن الزواج هو زواج القلب لا الجسد
ـ ثنائي رائع قلما يجتمع ـ
كانت هي للشدة وهو للين
نصحه أساتذته أن ترويض الفنان أشق من ترويض الأسود
تعلم منها قول الآه عندما يتألم
ـ علي حد تعبيره ـ
وتعلمت منه الصبر
ووجدت فيه مرفأ الأمان..
سناء جميل صاحبة أفضل أفلام
في تاريخ السينما المصرية
حين يتحدث عنها صاحب السعي
والشباب الدائم لويس جريس.. فماذا هو قائل؟
يقال إن الأحلام تولد أحيانا من تصاريف القدر
فإلي أي مدي يمكن تطبيق
هذه العبارة علي مشوار حياتك ؟
يجيب بابتسامته المعهودة
منذ البداية.. نعم منذ ولادتي فكنت طفلا يتيما
توفي والدي وأنا في الشهور الأولي
ورضعت كما يقال في الريف لبن الحزن
وكنت ضعيفا للغاية حتي إنهم تخيلوا
وفاتي وعمري شهور وكدت أدفن
لولا أنني تحركت وشاهدني أحد الأقرباء بالصدفة
فأنا من مواليد أبو تيج
شاءت الأقدار أن تنعم بلدتنا
بوجود مقام السلطان فرغل في بحري البلد
ومقام القديس أبو مقار في قبلي
وكنا نحتفل مسلمين وأقباطا بالمناسبتين
كان المناخ الاجتماعي للصعيد
من التماسك والوحدة بصورة يصعب وصفها بالكلمات
.. فالصعيد كان حالة من نقاء الفطرة والحب والتسامح والشهامة
فكنا نحتفل بمولد سيدي فرغل لمدة أسبوعين
ونسير وراء الجمال التي تحمل المقام
وتتوقف عند أبو مقار للسلام عليه
وتحيته وسط تهليلات وتكبيرات الجميع
حين حصلت علي الثانوية العامة
بمجموع61% انقضي أملي في الالتحاق
بكلية طب الإسكندرية لأنها
كانت تقبل الحاصلين علي61.5% فالتحقت
بكلية العلوم وشاء الحظ أن يكون
د. حسين فوزي السندباد المصري وأستاذ العلوم
هو أول من استقبلنا في الكلية ودعانا
لنتناول فنجان شاي وحدثنا عن الدراسة
وذكر أن الالتحاق بجماعات الهوايات الخاصة
لا يقل أهمية عن الدراسة الأساسية
وأكد لنا أن الهواية لا تعطل الإنسان
ولكنها تساعده علي تفريغ شحنات تزيد طاقته
وقررت الالتحاق بجماعة الصحافة
ويبدو أن الهوي تجاه الصحافة كان مهيئا تماما
بداخلي فسرعان ما جذبتني بشدة وطلبت
من د. حسين أن يرشدني عن الكلية
التي يمكنني استكمال دراستي الصحفية
بها
وترك العلوم
وكانت الجامعة الأمريكية
( قسم صحافة)
فانتقلت إلي القاهرة وكان أخي الأكبر
تاجرا ميسورا استطاع الوفاء
بسداد المصروفات السنوية التي
كانت تبلغ65 جنيها في العام
بالإضافة إلي15 جنيها للمصاريف الداخلية
ولكن هذا القرار ترتب عليه ضياع
سنة من عمري قضيتها في دراسة العلوم
وفوجئت أسرتي يوم التخرج بأسمي
ضمن خريجي قسم الصحافة لا العلوم..
وكان من المفترض أن أعمل بجريدة الأهرام
لأنني كنت الأول علي دفعتي وحاصل
علي لقب أفضل طالب
وقامت الأهرام بدفع نفقات دراستي
في السنة الرابعة
ولكن عزيز ميرزا مدير التحرير رفض تعييني
وظل حلم العمل بـالأهرام يراودني سنوات طويلة
حتي عهد
الأستاذ هيكل
حيث كانت نوال المحلاوي مديرة مكتبه دفعتي
وفي إحدي المرات أثناء زيارتي لها
قال لي يا لويس
( الأهرام لا تطلب ولكنها تطلب)
أي من يريد العمل عليه التقدم والسعي
كان ذلك في أواخر الستينيات
لكنني بعد التخرج مباشرة عملت
بدار التحرير في مجلة التحرير
وكان تعرفي بالصحفي الكبير حسن فؤاد
نقطة تحول حياتي حيث انتقلت معه إلي
دار الهلال وعملت في الإخراج الفني
( لصق الماكيت)..
ثم أخبرني حسن فؤاد بأن هناك
مجلة جديدة ستصدر قريبا
ستكون معبرة عن روح الثورة..
وكانت هي صباح الخير بالطبع
التي اختار لها أحمد بهاء الدين شعارها المتميز
منذ صدورها عام1956
إلي القلوب الشابة والعقول المتفتحة
وعرفني حسن فؤاد بأحمد بهاء الدين
وكان ذلك قدرا من أجمل الأقدار في حياتي المهنية
لأنه أستاذي الأول الذي مازلت أذكره
بالفضائل والمهنية البديعة
ربما لو لم ألتق به لتغير مجري حياتي
عاصرت إذن ولادة مجلة صباح الخير
وأجواء مؤسسة روزاليوسف العريقة
فما الذي تختزله من مواقف وذكريات مع عمالقة الصحافة
في لحظة تتعرض فيه المهنة
لهجمة شرسة تستهدف تقويض أساسياتها ؟
أسرتني شخصية
أحمد بهاء الدين
( رئيس التحرير)..
فأنا أعتبر نفسي تلميذه..
مازلت أذكر بالطبع
يوم صدور العدد الأول
نزلت أنا وصلاح جاهين وحسن فؤاد
والفنانان عبد الغني أبو العينين وجمال كامل
إلي محطة مصر نراقب سفر المجلة
في قطار الصحافة إلي الصعيد ووجه بحري
ونرصد ردود أفعال المواطنين لدي إطلاعهم عليها
وحين عدنا إلي المجلة وبيننا إحسان عبد القدوس
دخلت والدته فاطمة اليوسف وقبل يديها
وقالت لنا: مبروك يا أولاد المجلة نجحت
كان الحماس والشغف بهذا المولود الجديد يملأ الجميع
وأثبتت المجلة شخصيتها ومكانتها
حتي إن صلاح جاهين
كان يقول عنها: صباح الخير يتغني بحبها الطير
فالعمل مع إحسان عبد القدوس ـ
وكان يشغل منصب مدير عام المؤسسة
ورئيس تحرير روزاليوسف ـ
يمثل متعة خاصة
فهذا الأديب الكبير كان يعامل مرءوسيه
مثل أصدقائه تماما يدفعهم بحميمية للعمل
والانتماء للمكان وللمهنة وحدها..
كانت روزاليوسف تضم عمالقة الصحافة
علي ومصطفي أمين قبل أن يؤسسا جريدة أخبار اليوم
وكذلك محمد التابعي وحسنين هيكل
ومايسترو الصحافة كما كنا نطلق عليه صلاح حافظ
وفتحي غانم وعبد الرحمن الشرقاوي
الذي عملت مديرا عاما للمؤسسة في عهده
وكانت تجربة إدارية ناجحة قمت خلالها
بإرساء مبادئ العدالة الاجتماعية
في الأجور إلي أقصي حد
إنهم أكابر المهنة الذين تعلمنا منهم فيضا
من الإنسانية قبل المهنية
فأنا كنت أتردد علي
مصطفي أمين
منذ كنت طالبا بالجامعة
وكان يحرص علي توصيلي حتي باب الأسانسير
لكن بعد التخرج بعث لي برسالة
أنني كنت طالب علم والآن طالب وظيفة
وأعتذر عن المقابلة
لكن فيما بعد كان يرد علي كل تليفوناتي
كان كبيرا بحق
ففي إحدي المرات دخل صالة التحرير
في مجلة آخر ساعة
وكان صلاح حافظ
قد التحق بها بعد تركه روزاليوسف
عقب خروجه من السجن لمدة عشر سنوات
لأنها كانت مرتع الشيوعيين
وتساءل مصطفي أمين
في فضول شديد وإلحاح
عمن وضع هذا العنوان
عذراء الشاشة تضع بنتا
فأشار أحد الزملاء إلي صلاح حافظ
الذي كان يجلس في مقعده ولم يشأ أن يرد..
فأخرج مصطفي أمين من جيبه خمسين جنيها
وأعطاها له مكافأة وكانت رقما كبيرا بمقاييس تلك الأيام..
حيث كان اكتشاف الموهبة
ووضعها علي الطريق الصحيح
أهم من اكتشاف بئر بترول.
نعم. هذه هي سمات ذلك العصر الذهبي
للصحافة إضافة إلي التفرغ والإخلاص التام
لأصول المهنة والسعي في دروبها
بعيدا عن الأهواء والمصالح الخاصة
أهم ما يميز مدرسة روزاليوسف
أنها تحرص علي وجود صلة بينها وبين القارئ
في أحلك الأزمات حين كانت تشتد الرقابة في الستينيات
من هؤلاء الأساتذة تعلمنا
أن الخبر المثير هو الذي يحتوي علي معلومات
لا يعرفها أحد وتتفاوت درجة الإثارة
بمدي ارتباطها بالأشخاص
الذين وضعوها فالإثارة ينصرف عنها القارئ سريعا
رؤساء التحرير كانوا( قادة) يستخرجون
من الصحفيين أقصي طاقاتهم الإبداعية
ويشعلون حماسهم بكلمات التشجيع والتقدير والمكافآت
واذكر أنني عندما سافرت
في منحة إلي جامعة ميتشجان بأمريكا
وكيف سعد إحسان بهذا الخبر
وقال لي: إن السفر والدراسة
لمدة عام يعادلان قراءة ألف كتاب
ولكن من الإنصاف أن نقر بصعوبة
منصب رئيس التحرير في عالمنا العربي
حيث حرية الرأي والديمقراطية
لم تترسخا بعد وقد علمتني الحياة
أن المتعة الكبري يستشعرها
من يكتب مقاله ويسلمه وينصرف دون أدني مسئولية
اشتهرت مدرسة روزاليوسف بالكاريكاتير
وكانت أكبر مدرسة لخريجي هذا الفن في مصر
فلماذا بلغ هذا الفن ذروته في الستينيات
ثم تراجع نسبيا فيما بعد ؟
اشتهرت روزاليوسف بالفعل بحملات موسعة
لكبار فناني الكاريكاتير علي صفحاتها
التي كانت تصدر ممهورة
بأسماء حجازي وصلاح جاهين
وبهجت عثمان وزهدي وعشرات الأسماء اللامعة..
والسبب في ازدهاره في الستينيات
أن الكاريكاتير أحيانا يعادل مقالة سياسية
لما يحويه من نقد لاذع ومعان عميقة
ودلالات سياسية لا يمكن التصريح بها
فكان يتم التحايل باستخدام هذا القالب المحبب
للقراء سواء كان منفردا أو مصاحبا للمقال المكتوب
وكان أحمد بهاء الدين متأثرا
لأن هيكل خطف صلاح جاهين
من روزاليوسف
وكنا نطلق عليه اسم( المنقذ) حين
كان يتم إلغاء مواد صحفية من الرقيب
فهو صاحب مواهب متعددة وأفكاره
لا تنضب يمكنه ملء أي فراغ بإبداع لا مثيل له
ومازلت أذكر ذلك الغلاف الشهير
لعدد من أعداد صباح الخير
بريشة الفنان حجازي حيث رسم دولابا
مفتوحا بداخله شبان معلقون علي شماعات
وفتاة استبدت بها الحيرة وهي تفاضل بينهم
وتقول: تري أي فستان اختار ؟
كناية عن عدم وجود حرية في الاختيار
فثار الرئيس عبد الناصر وغضب غضبا شديد
وفي إحدي المرات أثناء رئاستي لتحرير صباح الخير
ذهبت ليلا إلي المطبعة وأنا في طريقي
إلي المنزل بعد سهرة طويلة
وأنا أقلب في الملازم اكتشفت
وجود صورة للرئيس عبد الناصر بالخطأ
مكان نكتة مصاحبة لمقال محمود السعدني
وشعرت بالكارثة التي كان يمكن أن تؤثر
علي مستقبلي المهني وقمت بتمزيق الملازم
وحمدت الله علي هذه الصدفة التي أنقذتني
مررت بتجربة دراسية في أمريكا
وأجريت حوارا مع كاسترو وآخر مع جيفارا في كوبا
فما الذي ترويه اليوم وتراه جديرا بالحكي ؟
أشياء عديدة بعضها ساهم في تشكيل وجداني
انطلق سبوتنك الروسي إلي الفضاء
فقامت جامعة ميتشجن بتعديل المناهج علي الفور
وتدريس النظرية الماركسية دون أن يروا
في ذلك ارتداد عن الراسمالية
من جهة أخري فقد اختارني أستاذي الأمريكي
للعمل معه في مجلة وكان يقوم بنفسه
لإعطائي الشغل المطلوب إنجازه والخطابات
التي ترد إلي المحررين ويعاملني بود شديد
وكذلك فعلت مع الزملاء حينما أصبحت رئيسا للتحرير
وأضفت بعض الخصال الحميدة
فهذه الفترة الدراسية
بالإضافة لمعاملة عمالقة الصحافة
لنا في شبابنا ووجود كيمياء خاصة
بيني وبين الشباب كل ذلك أسهم
في إثراء تجربتي الصحفية
بتلك المواهب التي ترعرعت
واحتضنتها أو مهدت لها الطريق
وأنا أعتبر أن أجمل أعمالي
التي لم تنشر هي تلك الحوارات
التي كانت تدور بيني وبين الشباب
الذين يفدون للمجلة للتدريب
وأفخر بأنني قدمت لمصر
ما يقرب من عشرين رئيس تحرير
لكل منهم بريقه الخاص
وأعتز بأنني أول من نشر قصة قصيرة
للروائي الموهوب علاء الأسواني
والذي أراه سفيرا لمصر فوق العادة
فيما يتعلق بأمريكا فأنا عاصرت
أسوأ سنوات العنصرية حيث كانت اللافتات
علي المطاعم تمنع دخول السود والكلاب
وشاهدت الحادثة الشهيرة
التي خلع فيها الرئيس الروسي خروشوف حذاءه
في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام1959..
كنت جالسا في شرفة الصحفيين
وعقب انتهاء خروشوف من إلقاء كلمته وعودته إلي مكانه
فوجئنا به يضع حذاءه علي المنضدة
ويحاول إصلاح الفرشة بداخله
أو البحث عن مسمار يضايقه
وفي النهاية كان يحاول إيجاد
حل فوري لصناعة روسية سيئة
وفي الحال انهالت عليه كاميرات التصوير
وأمطرته بوابل من الصور تصدرت الصحف العالمية
وحين وصل الخبر إلي مصر كان قد حرف تماما
وأصبح المغزي من خلع الحذاء
هو ضرب روسيا لأمريكا بالجزمة
في عقر دارها وبدا الأمر تلويحا باستخدام القوة
واسترحنا لهذا التفسير الدرامي
لأننا كنا في شراكة مع الروس
في المشروعات الكبري وعلي رأسها السد العالي
أما لقاء فيدل كاسترو فله ذكريات لا تنسي
حيث سافرت مع منظمة التضامن الأفريقي الآسيوي
وكانت تعمل في هذه المرحلة علي ضم
دول أمريكا اللاتينية وكان في الرحلة عدد كبير
من الأدباء والمفكرين أذكر منهم
محمد عودة وأنيس منصور
وكان من نصيبي الإقامة معه في غرفة واحدة
ولكن بما أنه شخص لا ينام يضئ نور الغرفة ليلا
فقد طلبت الانتقال إلي غرفة محمد عودة
فأطلق علي هذه النكتة: نحن الآن في كوبا حيث يوجد لدينا فيدل كاسترو
وفي ديل محمد عودة ويمسك بطرفه لويس جريس
وقد قابلت كاسترو في البداية بمفردي الساعة الثالثة صباحا
في بهو الفندق الذي كنا نقيم به
لأنه كان يعطي الوفد المصري
مواعيد لإجراء مقابلة صحفية ولا يحضر فانتظرته
وجاء ووجدني نائما علي الكنبة
فأيقظني بصوت جهوري ـأصحي يا مصري
وتبادل التحية وأردف قائلا: أتمني زيارة مصر
لا لمشاهدة الأهرامات ولكن لمشاهدة الفلاح المصري
الذي يزرع أرضه أربع مرات في السنة
لابد أن يكون هذا الفلاح عظيما
وهزتني الكلمات وأسرعت بالاتصال
بالزملاء الذين نزلوا علي الفور
لمقابلته وأجرينا حوارا جماعيا
نشره كل ما بمفرده في صحيفته كان كاستر
و ينظر لثورة يوليو علي أنها ثورة عسكر
وتأتي في المرتبة الثانية بعد ثورة الجزائر بلد المليون شهيد
وفي مقابلة أخري معه قابلنا جيفارا
وعرض عليه كاسترو أمامنا
أن يتولي منصب وزير الصناعة
لكن جيفارا رفض وقال إنه قام بالثورة في كوبا
وانتهي دوره وسينتقل لمكان آخر
يحتاج جهوده وأعتقد أن إخلاصه للفكر الثوري
ومشاركته الثوريين في عدة بلدان
جعل منه أيقونة للثورات حتي يومنا هذا
تزوجت من المبدعة الكبيرة سناء جميل
وزواج الفن بالصحافة يحظي دائما بالشهرة
ويكون محط إعجاب الجماهير
فلماذا لم يرتبط أسمك
بسناء جميل إعلاميا بشكل كاف ؟
لأنني كنت حريصا علي ذلك منذ البداية
فقد ارتبطت بسناء وتعارفنا
وشعر كل منا بالحب تجاه الآخر
وتزوجنا عام1961 وفي التوقيت
نفسه تزوج الصحفي
نبيل عصمت وليلي طاهر
وليلي فوزي وجلال معوض
ثم أحمد فراج وصباح
فقلت لها أننا لن ننشر صورنا
في الجرائد والمجلات وبصراحة شديدة
رفضت منذ البداية أن يشار علي
بزوج سناء جميل لأنها كانت مشهورة
بحكم عملها وقدمت فيلم بداية ونهاية
وأعمالا مسرحية عديدة بل
إن د. طه حسين كتب عنها
مقالا عام1956 بجريدة الجمهورية
وعندما تزوجت صارت الأمور كما أردت
وكان أول ظهور لنا معا في صورة فوتوغرافية
عام1975 في بداية زواجي
تلقيت ثلاث نصائح غالية
من أعظم الشخصيات
فهزتني كلمات إحسان عبد القدوس
لويس: أوعي تكون فاكر نفسك تزوجت مجرد امرأة
!! لا أنك تزوجت موهبة بقدر ما تزدهر
سيكتب اسمك في التاريخ وحذار أن تعاملها
كرجل صعيدي تقليدي فقد تقضي علي هذه الموهبة
أما ألفريد فرج فقد وصفها بالثروة القومية
التي يجب المحافظة عليها وكان د. لويس عوض
صديقا مقربا ويعتقد البعض بالخطأ
أنه زوجها لتشابه الاسم الأول وبدوره
كان معجبا للغاية بأداء سناء جميل ووصفها
بأنها ملكة الأداء المسرحي
ووجهني د. لويس عوض
لتثقيف سناء ليس عن طريق الكتب
لأنها قد تتحول إلي قيود تحد من انطلاقة
التعبير الفطري لدي الفنان وقد تورث
الاكتئاب ولكنه كان يدرك أهمية الثقافة
لاتساع أفق الفنان وتعميق نظرته للحياة
فقد أوصاني بالحرص علي جلوسها
وسط المثقفين القارئين حتي تظل
فطرتها نقية ينعكس علي سطحها
الشخصيات التي تؤديها بنفس الوهج
ولكن هذه الفنانة الكبيرة كانت لها
شخصية متفردة تميزها..
وكانت تبدو بعيدة نسبيا
عن الوسط الفني فما سبب تلك العزلة؟
سناء لها طبائع خاصة
فحين تعرفت عليها حسبتها
في البداية مسلمة
لأنها كانت أثناء مناقشاتي
معها تقول: لا إله إلا الله
وترد علي زميلاتها حين يقلن
صلي علي النبي قائلة: عليه الصلاة والسلام!!
فقلت العائق الوحيد هو اختلاف الديانة
بيننا فأخبرتني أنها مسيحية
وكانت لها ظروف خاصة جدا
فهي من ملوي صعيدية مثلي..
والدها كان محاميا بالمحاكم المختلطة
وبعد إلغائها عام1936 عمل لدي شعراوي باشا
وراتب وسلطان باشا كانت لها أخت توأم
توفيت وهي صغيرة وأخ هاجر فيما بعد
إلي البرازيل وهي في التاسعة من عمرها
حضرت مع والديها إلي القاهرة
والتحقت بمدرسة الميردي يو
ودفع والدها مصاريف سنواتها الدراسية
مقدما حتي التوجيهية وتركها
وسافر والداها إلي الخارج
ولم يعودا إلي مصر مرة أخري
لذلك عندما توفيت في2002 نشرت
خبر وفاتها في الجرائد العربية
ودفنتها يوم ثلاثاء بالرغم من أنها توفيت
يوم جمعه أملا في أن يظهر أحد أقربائها
أو والديها إذا كان أحد منهما علي قيد الحياة.
يبدو أن تلك الواقعة وهذه الظروف القاسية
التي تعادل الشعور باليتم والغموض
كان لها اثر إيجابي في شفافية أدائها..
فالألم من مصادر الإبداع
ولكن ألم تستفسر منها عن هذا السر؟
حاولت مرارا وكانت أحيانا
تفضل التأمل أو البكاء بمفردها
ولا تحب أن يراها أحد في هذه الحالة
وحين سألتها قالت إنها كانت صغيرة
ولا تعرف شيئا ولكن الأمر يشي
باحتمال وجود حادثة أو شئ قاهر
تورط فيه الأب فسير الأمور يظهر
مدي اضطرارهما لفعل ذلك
والله وحده يعلم كم كانت معاناتها
وحساسيتها المفرطة وشعورها
بافتقاد كلمات الاستحسان
من أقرب الناس إليها بعد أن
أصبحت ملء السمع والبصر
وكانت تقول أن الله ارسلني لها سندا وعونا.
من الذي اكتشف موهبتها التمثيلية وألحقها بمعهد التمثيل ؟
في مدرستها كانت تقوم بالتمثيل بالفرنسية
ونتيجة لطول إقامتها في القسم الداخلي
كانت لغتها العربية سيئة في البداية
ولا تجيد التحدث بالعربية بصورة سليمة
معظم حديثها كان فرنسيا
وبعد إتمام التوجيهية ذهبت للعيش مع أخيها
وأخبرها ابن الجيران عن معهد الفنون المسرحية
والتحقت به وحين علم أخوها صفعها بالقلم
وطردها من المنزل ليلة
حريق القاهرة26 يناير1952 فذهبت
إلي أستاذها زكي طليمات وأودعها
في منزل الفنان سعيد أبو بكر واعتنت بها زوجته الإيطالية
ثم أقامت في بيت طالبات وبدأت التمثيل
والاختلاط بزميلاتها سميحة أيوب ونعيمة وصفي
وملكة الجمل ومنهن تعلمت العربية بطلاقة
والصلاة علي النبي!!
أما اللغة العربية الفصحي
فقد استقدم لها زكي طليمات
أستاذا خاصا
وكان عبد الوارث عسر
أستاذهم جميعا الذين يعلمهم
اللهجات الصعيدية والبدوية
لقد تزوجنا بعد فيلم بداية ونهاية
الذي نالت عنه جائزة أفضل ممثلة
من مهرجان موسكو
ورشحها للدور صلاح عز الدين
أحد كتاب سيناريو الفيلم
بالرغم من أن اسمه
لم يكتب علي الشاشة لكنها
فاجأتني بدورها في فيلم الزوجة الثانية.
يقال أن صلاح أبو سيف
وضع بلاستر في قدمها
لأنها رفضت أن تسير حافية
وأصرت علي النوم بجوار القطار
فما هي كواليس هذا الفيلم
ـ الزوجة الثانية ـ ا
لذي اعتبر مع بداية ونهاية
من أفضل مائه فيلم مصري؟
صلاح أبو سيف أخبرها
بأنها لابد أن تمشي
حافية علي( الجلة) مثل
أي فلاحة وتم لصق البلاستر
في قدميها واحتشدت بكل طاقتها
لمشهد القطار وتمددت علي يمينه
لكنها كانت تعتقد أن صلاح أبو سيف
لم يلتقط الصور التي تظهر الفزع
بالشكل الكافي وفوجئت بزوجتي
التي اعرفها جيدا ذات النزعة الارستقراطية
تقوم بهذا الدور البديع كزوجة ريفية
ينطلق لسانها
بـالليلة يا عمدة
بهذه الطريقة الرائعة والأداء الريفي
كما لو كانت نشأت في هذه البيئة
منذ نعومة أظفارها زوجة عمدة بحق.
كيف كانت تتهيأ لأدوارها وهل كانت لها طقوس خاصة؟
يضحك أستاذ لويس ويقول:
كانت تمتلئ بالشخصية وتستحضرها
وتصمم ملابسها وكنت أذهب معها
لوكالة البلح وتقوم بشراء الأقمشة
لأنها كانت تهوي التفصيل بنفسها
وكانت ثقتها بنفسها وطريقتها
في إيجاد مسافة بينها وبين الناس
تسمح لها بذلك وكانت تقول لي:
إنني أشبه عسكري مدرب يحمل سلاحه
يوميا لكي يشق طريقه بين الجماهير.
كانت تريد التفرغ التام لعملها بعيدا
عن المجاملات التي ترهق
وتبدد طاقة الفنان
وكنت أدعوها أحيانا
للسفر إلي باريس للنزهة
فتقول أن نزهتها الوحيدة
هي العمل والحياة في مصر
أفضل وسيلة للترويح عن النفس
أذكر أثناء قيامها بتصوير
مسلسل الراية البيضا
وهي تقوم بدور فضة المعداوي
التي تسيطر علي المنطقة
أنها طلبت مني الذهاب معها
إلي بحري وتناولنا أكلة سمك
ثم قمنا بزيارة بعض السيدات
لرؤية ملابسهن وطوال فترة التصوير
كانت تتشاجر معي وتتحدث بطريقة شعبية جدا
لأنني أتأخر حتي العاشرة
وكان ذلك نتيجة لتأثرها بالدور
وكان ذلك الموقف يتكرر معي ومع آخرين
فهي من الممثلات اللاتي يعشن الدور بكل كيانهن
ولا يمكن التحدث معها قبل صعودها للمسرح
بفترة زمنية فالدور يستغرقها تماما
وللأسف قررنا ألا ننجب أطفالا
وكانت تعتقد أن الإنجاب سيعطل
مشوارها الفني وحين بلغت أنا سن الستين
وأنا أكبرها بثلاث سنوات قالت لي
: لقد أخطأنا يا لويس لعدم إنجابنا أطفالا.
ما الذي كان يؤرقها في حياتها أو فنها؟
كانت منضبطة جدا كزوجة وسيدة بيت تراعي شئونه
كانت تتمني التمثيل أمام أحمد زكي
وأخبرته بأن هذه رغبتها قبل وفاتها فقال لها
: يا نهار أبيض يا ست الكل وأرسل لها سيناريو
فيلمي سواق الهانم واضحك الصورة تطلع حلوة
وكان أعلي أجر وصلت له في السينما20 ألف جنيها
فيما يتعلق بما يشغلها فكان ما بعد الموت
فحين دخل كامل الشناوي في غيبوبة
طلبت مني التعرف عليه وكانت تسأله أسئلة كثيرة
عما شعر به وحين داهمها المرض سرطان الرئة
لم نكن نعلم وكانت تشعر بتغييرات
وترفض الذهاب للمستشفي
واضطررت لادعاء المرض حتي تضطر
للذهاب معي إلي المستشفي وبمجرد وصولي
طلبت الكشف عليها وللأسف كان السرطان
من الدرجة الرابعة وقبل أن تأخذ الكيماوي
سألتني هل مازال وجهها سليما
وقبل أن أجيب بنعم قالت:
عموما إذا لم استطع التمثيل مرة أخري
فسوف أفتح آتيليه وأقوم بتفصيل
ملابس جميلة لسيدات مصر لأنني
اعلم عيوب جسم المرأة المصرية
وسأعمل علي مدارتها
ولكن للأسف غيبها الموت
ومازالت النفس تحمل تفاصيل ذكرياتي
معها وتدعوني لتسجيلها في كتاب وأنا أري
أن أجمل سنوات الزواج عموما هي سنوات آخر العمر
فالحياة مع هذه السيدة ـ
التي كانت جمرة مشتعلة
بالموهبة الفطرية مميزة للغاية لأنها كانت تحاول
التوفيق دائما بين فنها وبيتها
وكأنها تمشي علي حبل مشدود
باسطة ذراعيها وكأنها تعبر جسرا
من العذاب يكابده دائما الفنان الأصيل
أنت صديق الشباب وكنت من أكثر المتفائلين
بالثورة فكيف تري مسارها بعد ما تعرضت
له من انعطافات خطيرة انعكست علي الصحافة؟
الثورة تتضاءل يوم بعد يوما ولابد أن نضع
أمام الشعب نموذجا للتغيير فنحن مازلنا نقضي
وقتا طويلا في مناقشة قواعد اللغة السياسية
ثم لا ننجز شيئا نسير( الهويني) فلابد
أن نسرع الخطي ونتخذ قرارات ثورية
ولا أقصد بها قلب الهرم أو قبول التجاوزات
ولكن الإصلاح فحين كنت في كوبا
في الستينيات أغلق كاسترو الجامعات
لمدة عام لكي يقوم الطلبة بمحو أمية
الشعب هذا نموذج للقرار الثوري
وأن ننشغل ببناء وإصلاح مصر لا المحاكمات
التي لا طائل من ورائها فالحرامي معروف
أما ما ينشر عن الفساد فقد أطلقت عليه صحفيا
فساد النشر عن الفساد فمازال الصحفي المصري
كسولا يعتمد علي التقارير( المضروبة) والحكايات
ولا يذهب لمصدر الخبر لأنه يتبع
أسلوب عبد المطلب هاتوا لي حبيبي!!
حــــوار: ســهير حـلمــي
جريدة الاهرام المصرية
0 comments:
New comments are not allowed.