Sunday, December 18, 2011

........هبك ـ كما تدعي ـ وزيرا‏!‏......




تقول الواقعة التي يعرفها
المتصلون بتراث الشعر الأندلسي‏
إن شاعرا أندلسيا كانت
تربطه علاقة صداقة وطيدة

بأحد المستخدمين الذين يعملون
في وظيفة متواضعة بقرطبة‏‏

وكان الصديقان: الشاعر والمستخدم
يتزاوران دائما, ولا يكاد يمر يوم
إلا والشاعر لدي صديقه يتردد عليه في عمله
ويتبادلان الخوض في أخبار الناس وأحوالهم
وقبل أن يفترقا يتفقان علي اللقاء ثانية في المساء
للمشاركة في وليمة السهر والسمر
وقطع ساعات من الليل الطويل في لون آخر
من حديث المنادمة والمفاكهة

حتي جاء يوم ذهب فيه الشاعر

ـ كعادته ـ

لزيارة صديقه المستخدم
وإذا بحاجب علي بابه يصده ويمنعه
ويسأله أن ينتظر ويتريث حتي يؤذن له
ولما تعجب الشاعر من هذا التصرف
أفهمه الحاجب أن صديقه قد أصبح وزيرا
متمنيا له أن يصبح مثله
وطالبه بالانتظار لأن صديقه الوزير

لديه ما يشغله الآن ولن يتمكن من استقباله علي الفور
واستشاط الشاعر غضبا لهذا الانقلاب بين يوم وليلة

وهو الذي دامت صداقته وتردده علي المكان سنوات طويلة
فكيف تجيء هذه اللحظة الفاصلة بينهما
ويصبح فجأة في منزلة أدني من صديقه
تتطلب الإذن والانتظار والامتثال
ولأنه شاعر, فقد نفث غضبه في قصاصة صغيرة
بها بيتان من الشعر طالبا توصيلها إلي الذي
أصبح يتعالي عليه بعد أن صار وزيرا وفيها
هبك ـ كما تدعي ـ وزيرا
وزير من أنت يا وزير ؟
والله ما للأمير معني
فكيف من وزر الأمير
وهكذا لم يصب غضب الشاعر

صديقه الذي صار ـ كما يدعي ـ وزيرا فقط
وإنما امتد ليصيب شخص الأمير
الذي قرر تعيين هذا الصديق وزيرا

وانصب الهجاء علي الأمير ووزيره معا

ذكرني بهذين البيتين المأثورين في الشعر الأندلسي
اللذين يرددهما كثير من حفظة هذا الشعر
ورواته, حال البعض ممن يفاجئهم
القدر باختيارهم وزراء في هذه الأيام
في مصر وفي بلاد كثيرة من العالم العربي
وكيف أنهم لدهشة المفاجأة وعدم تصديقهم
للأمر ـ للوهلة الأولي ـ قد يتعرضون لصدمة
من تأثير هذا الاختيار الذي لم يتوقعوه

حتي في أحلام يقظتهم أو منامهم
فلم يكن سياق حياتهم, أو منجز أعمالهم
ـ فيما سبق ـ

يشير إلي أنهم سيكونون وزراء ذات يوم
فإذا بهم ـ دون سابق إنذار
ـ يلبسون سمت الوزير وهيئته
ولغته وإشاراته ـ بين يوم وليلة ـ
ويبدأون في إقامة الحواجز ورسم المسافات بينهم
وبين رفاق الصحبة القديمة التي تجاوزوها

في المرتبة والمنزلة بعد أن أصبحوا ينتمون
إلي طبقة الوزراء ومن لف لفهم
من كبار مسئولي الدولة, ونجوم المجتمع
ذلك أنهم لن يفكروا ـ ولو مرة واحدة ـ
في الجلوس علي المقهي نفسه
الذي كان يؤويهم في زمن الصعلكة

والعلاقات السهلة التي لا يسودها
تكلف أو تصنع, ولن يخرجوا إلي الناس
ـ مهما كانت المناسبة ـ
إلا في الزي الذي يليق بالوزير
وسيحرصون علي تجنب
مخاطبة الناس والمشي في الأسواق

وألا يراهم أحد
ـ وهم يأكلون الطعام ـ

بالرغم من أن الأنبياء أنفسهم كانوا يأكلون الطعام
ويمشون في الأسواق, وأهم من ذلك كله
المبادرة إلي تغيير أرقام التليفونات الخاصة
التي لم تعد صالحة أو لائقة
بهذه المرحلة الجديدة

ومهامها ومتطلباتها
وحتي لا يردوا بأنفسهم عليها

شأن الكبار وعلية القوم, يرد عليها

أولا طاقم السكرتارية أو المستخدمين
قبل أن ترفع المكالمة إلي جناب الوزير
لقد أصبح تداول الوزراء وتغييرهم
ـ في مصر وفي دول عربية كثيرة
ـ شأنا شبه شهري
والاستثناء فيه
أن يدوم صاحبه
في منصبه عاما واحدا
,
أو قرابة عام, وترتب علي هذه التغييرات
المستمرة
ـ لأسباب كثيرة ـ النزول بقدر الوزير
والنظر إليه باعتباره عابرا لا دائما
وأن صوت الميدان قد يعصف به في أي
لحظة
وألسنة المعارضة وأقلامها
لن تتركه ـ أبدا ـ لحال سبيله
بخلاف الحال
في زمن الديكتاتور الحاكم
الذي كان بيده
وحده أمر التولية والعزل
ولا قيمة لما
يقوله الناس عن وزيرهم
مدحا أو قدحا
, فكان الوزراء في عهده
أكثر أمنا
وشعورا بالاستقرار ودوام الحال
لدرجة
أن منهم من قضي أكثر من عشرين عاما

ـ أي خمس قرن بكامله ـ
وهو يشغل كرسي الوزارة
رضي الناس أم سخطوا فهو
علي ثقة من أن عناد الحاكم
في مواجهة ما يريده
الناس أمان له من التغيير

وأن رضا هذا الحاكم الذي له وحده
الولاء والخضوع والطاعة

هو الذي يبقيه في مكانه
ويعصمه من التغيير

فهل يعيد بعض وزرائنا الآن
قراءة بيتي الشاعر الأندلسي القديم؟
******
فــــــاروق شوشــــــة


0 comments: