Monday, September 5, 2011

.........برقــــوق نيســـــان :غسان كنفانى




حينما تقرأ سطور هذه الرواية البديعة
(‏ بـــــرقــوق نــيسـان‏)‏
لكاتبها المناضل الفلسطيني
الراحل غسان كنفاني ينتابك
علي الفور إحساس
بالمرارة والحزن العميق‏..‏
ثم لاتلبث أن تتأمل سطورها القليلة المكثفة

فتشعر بالدهشة لقدرة
هذا المناضل السياسي علي صياغة
رواية قصيرة, دقيقة, مفعمة بالمشاعر
والعواطف وحافلة باللمسات الإنسانية
والرومانسية العذبة التي تطل
علينا وسط العنف والدماء والموت.

نحن هنا أمام مشهد قصير
يعكس معه نضال الفلسطينيين
في مواجهة الإرهاب الصهيوني..
مشهد صاغه الكاتب عبر روايته
القصيرة الموجزة التي لم تكتمل سطورها
إذ اغتالته الصهيونية في يوليو عام 1972

يحمل أبو القاسم
باقة من زهور البرقوق
التي جمعها بيديه وقطفها وسط الطريق
ليقدمها إلي سعاد..
لقد اكتشف لتوه أنه لم يقدم
لها شيئا عبر زياراته ومقابلاته العديدة لها..
منذ سنة وأنا آتي لسعاد بكفين فارغتين
كل شهر ولا ريب أن منظر هذه الزهور
سيبدو علي الطاولة البيضاء جميلا.

وما أن يصل أبو القاسم إلي بيتها
ويطرق بابها حتي تدفعه أياد غليظة.

يفتشون جيوبه.. يركلونه..
يبدأون في استجوابه وإهانته..

تسقط باقة الورد الحمراء علي الأرض.
هناك طفل صغير يبكي..
وصحن من الكنافة علي الطاولة..
سعاد ليست موجودة..

أين هي؟ ما الذي يحدث في بيتها؟
من هذا الطفل؟ وهؤلاء الجنود ماذا يفعلون هنا؟
أسئلة كثيرة تتدافع في الرؤوس
ولن يجد القارئ إجابة واضحة عليها
عبر متن الرواية القصيرة
ربما تنير تلك الهوامش الطويلة
الملحقة بالرواية بعض النقاط
ولكن تظل هناك زوايا غامضة
تتيح للقارئ قدرا من التأمل والاستنتاج..

لقد فضلت أن أقرأ سطور الرواية أولا
دون اللجوء إلي الهوامش التوضيحية
تاركة العنان لخيالي كي يكمل النقاط الغامضة
التي لم يبح بها المتن
ثم أعدت قراءتها ثانية مستعينة
هذه المرة بالهوامش
فإذ بالإحساس العميق
الذي اعتمل داخلي يتأكد وينضج.

فالهوامش تسير هنا
جنبا إلي جنب مع المتن الروائي..
توضح نقاطا تشرح بشكل محايد أحداثا.
وتؤرخ في لغة تقريرية محايدة
لأجواء الرواية دون أن تفسدها
ودون أن تضفي عليها تلك الصبغة
الإخبارية السياسية التي ربما لاتلائم
ذلك السياق الرومانسي والإنساني
الناعم الذي يعرض له قلم الكاتب.

ومن السياق
( المتن والهوامش)
تأتي التفاصيل وتتشكل الصورة
رويدا رويدا وإن بقيت العتمة
تجتنب بعض جوانبها

أبو القاسم ذلك الكهل الخيتار
الذي استشهد ابنه, وشاهد جثته وتعرف عليها
لكنه أنكر ذلك في حضور الشرطة..
سعاد المناضلة السياسية
التي تركت دراستها وانخرطت
في النضال السياسي
وكان بيتها بمثابة بؤرة اتصال..
طلال الذي لايظهر هنا في متن الرواية
لكننا نعلم انه مناضل
وعلي صلة وثيقة بسعاد..
زياد الجار الذي بعث بابنه الصغير
إلي بيت سعاد ليقدم لها صحن الكنافة كعادة
أهل فلسطين حينما يعدون الحلوي
ويقدمونها للجيران.

وتداهم الشرطة البيت في كمين مفاجئ.
وتتشابك الخيوط مع بعضها بعضا:
الكهل.. الجنود.. الطفل الذي يبكي..
سعاد صاحبة البيت التي لانعلم عنها شيئا..
زياد الذي جاء يبحث عن ولده..
خطوات طلال علي الدرج..
وفي المشهد أيضا تطل
باقة ورد البرقوق القانية وصحن الكنافة الذهبية
ربما كرمز للحياة والحب والمودة
التي تبقي رغم أنف
الدماء والموت والمؤامرات!

أستوقفتني كثيرا كلمات كنفاني المؤثرة..
مضيت أقرأها أكثر من مرة فهي تشبه
أبيات الشعر الناعمة التي تدخل
القلب ولاتكاد تبرحه.

يقول في مطلع روايته:
عندما جاء نيسان أخذت الأرض
تتضرج بزهر البرقوق الأحمر
وكأنها بدن رجل شاسع مثقب بالرصاص
كان الحزن, وكان الفرح المختبئ فيه
مثلما تكون الولادة ويكون الألم
هكذا مات قاسم قبل سنة
وقد دفن حيث لايعرف أحد دون اسم
ويبدو الآن بعيدا وكأنه لم يكن طوال العمر
إلا واحدا من هذه الأحلام العظيمة
التي تطل مع المرء وكأنها جزء منه
وترافقه إلي الفناء دون أن توجد حقا
ومع ذلك فإنها قادرة علي أن تكون
مثل حقيقة ما يفتقدها المرء
من حين إلي آخر ويشعر
في لحظة أو أخري
ملمسها وكأنها فرت للتو من بين راحتيه.

وفي مطلع آخر يقول:
كانت نابلس
ذلك الصباح منكفئة
علي نفسها وكأنها لاتزال نائمة..
وقال أبو القاسم لنفسه:
إن المدن مثل الرجال
تشعر بالحزن, تفرح وتنام, وتعبر عن نفسها
بصورة فريدة تكاد لاتصدق وتتعاطف
بغموض مع الغرباء أو تركلهم
بل إن الأحياء في المدينة
مثل الأولاد في العائلة, لكل منهم شخصيته
ومنزلته ومزاجه, فثمة شوارع محببة وأخري
تتفاذف العابرين فيها بفظاظة
وشوارع خبيثة, وأخري صريحة.

نحن هنا أمام كاتب روائي محنك وقدير
لغته الأدبية الرفيعة والرصينة
تنحت صورا بديعة يوظفها جيدا
لخدمة رسالته السياسية دونما
أن يغفل تفاصيل الحياة اليومية
ولكل الأشياء الصغيرة البسيطة
التي تضفي عليها طعما وخصوصية.

ويترك كنفاني قارئه معلقا
خلف عباراته واشاراته
التي تؤكد جميعها حبه للحياة
وتعلقه باهدابها رغم رائحة الموت والدماء
التي تطل من كل مكان
( باقة الورد الحمراء, صحن الكنافة,
تلك المودة التي تربط الجيران بعضهم ببعض,
المدن التي تشبه الصبيان وأولاد العائلات,
الأحلام العظيمة التي تسكن المرء
ولاتكاد تغادره رغم أنها مجرد أحلام.. الخ).
صدرت الرواية في طبعتها الجديدة
عن وزارة الثقافة والفنون
ـ قــــطــــر ـ
كتاب الدوحة
وهي تضم معها قصصا قصيرة أخري للكاتب.
قدم لها الكاتب الصحفي عزت القمحاوي
وهي مرفقة بدراسة مستفيضة
لاعمال غسان كنفاني
يعرض لها الناقد الكبير فيصل دراج



بقلم

الاستاذة ليلى الراعى

جريدة الأهرام

0 comments: