Friday, June 24, 2011

...........الطــــــــــــــــــابـــور........




تتشابه الأسواق في الأرياف
ولا تكاد تختلف فكل منها
فضاء واسع يحده سور
وله باب وعلى أرضه

دكاكين بضاعة ذات رفوف
فارغة قد لوحت أخشابها
حرارة الشمس وليالي الشتاء
ثم مصاطب مبعثرة مصنوعة
من تبن يؤلف بينه طين .

ويوم السوق هو بلا شك
أروع الأيام وأشهرها

وهو الزحمة التي تحدث كل حين
مرة معلنة وكأنها ساعة بشرية
هائلة انقضاء سبعة أيام

وفراغ جيوب وامتلاء جيوب
وقبض أجور واختلاس أجور
و شبع ناس و جوع ناس و تقيس العمر.





بعد أن ينفض السوق يبقى الفضاء
لا يؤمه إلا الغربان وأسراب الخرفان
والماعز الطوافة وفرق الرياضة

من التلاميذ والمباريات وكرة القدم .

وتتشابه الأسواق في الأرياف

إلا سوق السبت في تلك الناحية
فقد كان يتميز بظاهرة غريبة
فسوره كله كان مصنوعا من حدائد
لها أطراف مدببة ماعدا جزءا صغيرا
لا يتجاوز المترين
قد بني من الدبش والأسمنت وأ ُحكم بناؤه .

ومن قديم والناس يختلفون
في أمر ذلك الحائط الصغير









ثم شب جيل كان أقل خيالا من سابقيه
رأى في الحائط الصغير
تجربة
كان القصد منها بناء السور كله
بالدبش
والأسمنت
وفشلت التجربة .

ولا يكف الناس أبدا
عن إيجاد التعليل .

ومع هذا بقى
السر الحقيقي
لا يكاد يصدقه أحد ..

فالسوق أول الأمر
لم تكن سوقا
وإنما كانت
قطعة أرض بور
لا ينبت فيها زرع .
رأى أهل القرى
المجاورة أنها أقرب
مكان يفدون إليه
مثقلين بالغَلّة والبلح
والجبن ويعودون
وقد خفت أحمالهم
بالدمور والمرايا
والسكاكين الخارجة
لتوها من تحت يد الحداد .
وكانت تلك الأرض
جزءا من الأملاك الواسعة
التي آلت لأحد أعيان
الجهة الذي ينحدر
من سلالة من الترك
أو المماليك والله وحده أعلم
ورأى المالك
في قدوم الناس ومواشيهم
إلى أرضه البور
كسبا له وطريقة
لإخصاب الأرض
حتى يزرعه بعد حين .
ولهذا سمح لهم بالقدوم
بل كان يشجعهم
على القدوم حين
يمر عليهم وسط الزحمة
راكبا فرسه موزعا
ابتساماته الراضيات ..

ولما رأى أن الأرض
قد استوت للزرع
بما خلّفته المواشي من بقايا
أراد حرثها وحرثها
ومع هذا قدم إليها
الناس مثقلين
وغادروها خفيفين ،
وبططوا الحرث وأقاموا السوق ..

وطرد الناس وحرثها مرة أخرى .
وفي الأسبوع التالي أُقيم السوق
أيضا وبطط الحرث .

وأشار عليه
ناظره العجوز
أن يستغل الأرض
بطريقة أخرى
فيترك الناس
يجيئون ويذهبون
على أن يأخذ
ضريبة على المتسوقين
وأخذ المالك بنصحه
وفي الأسبوع التالي
انطلق محصلوه
يترصدون القادمين
ويجمعون الإتاوة
ولكي يزيد
الإيراد ويقلل المصاريف
أقام حول الفضاء
سورا من الخشب
جعل له بابا على الطريق الزراعي
وجعل على الباب
مُحصِّلا واحدا

وهكذا وُجدت سوق السبت
وما لبثت أن عمّرت وازدهرت
وأ ُضيفت إلى بلادها بلاد
وأُضيفت إليها سويقات
للحمير والجمال واكتملت
أصنافها حتى من البوظة والعرقسوس




ولم يكن على
أهل القرى الغربيّة
أكثر من أن يعبروا
الطريق الزراعي
ويدخلوا الباب
ليصبحوا في السوق
أما أهل القرى الشرقيّة
فالمسألة بالنسبة لهم
كانت أصعب فالمشايات
التي تنحدر من قراهم
كانت تلتقي عند الساقية القديمة
في مشاية واحدة ضيقة
تنتهي عند نقطة في السور الشرقي
للسوق تقابل الباب في الجهة الغربية
وكان عليهم
لكي يدخلوا

أن يلتفوا
حول السور كله

وهذا تعب ومشقة
فاختصروا

الطريق وكسروا
خشبة في السور

وأصبح الأمر
لا يكلفهم إلا المروق
من بين الخشبتين
ليصبحوا في قلب السوق










وكان لصاحب الأرض سرايا
تطّلع على السوق كلها
مشربيات وشرفات وسلاملكيات
وأشياء من هذا القبيل
والظاهر أنه كان واقفا
في شرفته ذات يوم
فرأى طابورا لم يكن يعرف
كيف يبدأ لكنه رآه ينتهي
في السوق من خلال السور
فجن جنونه وركب رأسه .
وركب كذلك حصانه
وانطلق يرى الأمر
وهناك رأى الفتحة
فشلضم وبرطم وأمر بإصلاح
الخشبة المكسورة في الحال .
ويوم السوق التالي
وقف في الشرفة يشمت
في الطابور الذي
لا ريب سينكسر عند السور
ولكن آلاف العفاريت
ركبته حين رأى الطابور
يواصل سيره المعتاد
ولما أسرع يعاين
وجد الخشبة الجديدة مكسورة
ويقولون إنه جلد النجار
الذي أصلحها وجلده
مرة أخرى ليصلحها .
بل وقف على رأسه
حتى أتمّها وامتحن متانتها
بنفسه وفي السبت التالي
رجع فإذا الخشبة مكسورة !
واحمر وجه الرجل
من الحنق حتى كاد يدمى
وقطع شجرتين من
أشجار السنط
وكومها حتى سدت الفرجة ..
وما مر أسبوع
حتى كانت
الشجرتان كل في
أقصى ناحية والطابور
لا يزال لا بداية له لكنه
ينتهي في السوق
من خلال تلك الفجوة .
وكاد شريان من
شرايين الرجل ينفجر
وهذه المرة كلفه
استعمال عقله
ليلة كاملة
وفي الصباح أحضر
فرقة من الصعايدة
بكريكاتهم وفؤوسهم
وما انتهى الأسبوع
حتى كانوا قد حفروا
ترعة حول السور كالخندق
وأطلق فيها الماء .
ولم يتعب نفسه
ويقف يوم السوق في
الشرفة ولا بعده
من أسواق فقد كان
متأكدا من انقطاع الرِجْل .
والذي حدث أنّ
شجرتي السنط جيء بهما
ووضعتا في الخندق
وبقى ظاهرا منهما
ما يكفي ليخطو الإنسان
عليه في أول سوق
بعد الترعة ثم
قــُلقلت قطع ٌمن
الطين الجاف
–نفس الطين الذي نتج عن حفر الترعة–
وأ ُسقط فوق جذعي الشجرتين
ثمّ ما لبث الطين
أن ردم الترعة
واتصلت المشاية بالفجوة!
ويبدو أنّ الرجل
كان يركب فرسه يتنزه
ذات يوم فوجد المشاية
واصلة إلى السور
وظل يسب ويرطن أياما
وظل كذلك أياما
يكظم غيظه
وأصبحت المسألة
مسألة كرامةٍ و عـِنْدٍ و تَحَدٍّ
من الفلاحين العبْط
فانتقى من بين خفرائه ثلاثة
طوالا عراضا وقال لهم:
"خراب بيوتكم إن مَرَّ أحد".
ويوم السوق
تلكّأ الطابور لأول مرة
وما لبث أن توقّف
فقد نشبت عند السور
خناقة كبيرة
وفي الضحى حُمل
الطوال العراض
إلى السراي ودمهم يسيل .
واستعاد الطابور
بقية اليوم سيره وسرعته
وطاب الخفراء
وعادوا يحرسون الثغرة
ونشبت معارك
أقل حدة وتلكّأ الطابور
مرارا ثم كفّ عن تلكئه
واستأنف سيره تحت وابل
من حفن الجميز وخيارتين
أو طور بلح أو نفس دخان
أو حتى
" عواف عليكو يا رجالة"

وذات مرة رأى
صاحب الأرض خفراءه
جالسين يستظلون
بشجرة الجميز
وتأتيهم المنح
من الذاهب إلى السوق
والعائد منه فطرد الخفراء
وأحضر بنّائين وأحجارا
وبنى ذلك الحائط العالي
الذي أغلق الفجوة تماما
وأغلق كذلك في نفسه
كل فجوة يمكن
أن يتسرب منها الشك
في احتمال فشل الحائط .
ولم يكد سبت واحد
يمضي حتى اكتشف
الرجل مخبولا
أنّ الخشبة
التي بجوار السور تماما
قد كسرت وأنّ فجوة جديدة صُنعت !
وأقسم يومها أن يبيع السوق ..
ولم يُتح له
أن يبرَّ بقسمه
إذ استولت عليه
شركة الأسواق بناء
على مرسوم وامتياز طويل الأجل .
ومع أنّ
الشركة
قد أقامت
بدل السور الخشب
سورا من الحديد كلما
بلي جددته ومع أنها
لم تركب رأسها
كالصاحب القديم فتستأجر
فتوّات أو تُقيم حائطا
بل استعانت بالمركز
فجعل لها كل سبت كوكبة
من الخيّالة
تجوب السور
رائحة غادية .
مع هذا إلا إنك إذا
وقفت في الصباح الباكر
من أي سبت فسوف تجد المشاية
تحفل بالطابور
الذي لا تعرف كيف يبدأ
ولكنك تراه ينتهي
في السوق من خلال السور .
ودائما هناك خشبة مكسورة !
انتهت

*******
*****
***
*
قصة
الطابور
من رواية
جمهورية فرحات
للأديـــــب الطبيب
يــــــــوسف أدريس
منقووول
من موقع
رواءالأدب

6 comments:

Anonymous said...

السلام عليكم
هى القصه جميله بصراحه
للاسف العند بيخلى الشخص يمكن يضر بنفسه قبل ما يضر غيره
رغم انه كان ممكن يكسب الموقف بطرق كتيره
ربنا يكرمك ويوفقك

Unknown said...

م/محمود فوزى
فعلاً العند بيورث الكفر
والعياذ بالله منه- كما يقول
المثل الشعبى عندنا
جزاكم الله خيرا على
التعليق والدعاء
وجعل لكم ولنا
وللناس جميعا
نصيباً فيه

مدونة رحلة حياه said...

السلام عليكم
شكرا يا دكتورة
على اختيارك الرئع ونقلك الجميل لها لتمتعينا وتعلمينا معك
دومتى بخير

Tarkieb said...

هههههه ده طابور حمزة مالوش نهاية ولا اكس....بس حلوة اوووي القصة وزين ما اختارتي..

Unknown said...

مدونة رحلة حياة
وعليكم السلام ورحمة
الله تـــعالى وبركاته
الشكر لله يافندم
يخلى النت للجميع:):)

Unknown said...

Tarkieb
دى رغبة الجمـاهير
ياتراكيبو: لاتصد ولا ترد:)

Post a Comment

قول ولا تجرحـش