يكاد البعض يجزم بأن أجيالا شابة
من المصريين قد تساءلت عن هوية
«عبد المنعم رياض»
صاحب التمثال المطل على ميدان
هو بحق «سُرَة» القاهرة،
حيث تنطلق منها مواصلات عامة
تخدم الملايين يومياً.
كان الإسم يتردد بين عابرى الميدان
كعلامة اتُفق عليها دون أدنى محاولة
لمعرفة التاريخ وراء الاسم الذى صار شاهداً
على أهم 18 يوم فى تاريخ مصر المعاصرة.
ترى كيف رأى تمثال «رياض» ما حدث حوله،
وهل كانت روحه ترفرف على الميدان
لتحرس زهور مصر التى أينعت فجأة
كما أسّرت لى امرأة عجوز
اتكأت على قاعدة الثمثال
وراحت فى بكاء شديد؟
25 يناير
كان اليوم (الثلاثاء) أجازة معتادة
احتفالا بعيد شرطة مصر الذين دافعوا
عن موقعهم فى الإسماعيلية ببسالة
ضد قوات الاحتلال الإنجليزى فى 1952،
وعلى الرغم من ذلك دبت
فى ميدانى منذ الصباح الباكر
حركة دائبة لأفواج الأمن المركزي،
وأفراد الداخلية من كل الرتب.
كانت أصواتهم تعلو
بينما تعبر الميدان من لاسلكى لآخر ناقلة
أوامر لإعادة التشكيل والتمركز
فى مواجهة مسيرات انبعثت فى كل مصر.
بعض رجال الشرطة قدموا
«شيكولاتة»
للعابرين فرادي،
وابتسموا فى الوجوه التى أصابها قلق مزمن.
مع آذان العصر بدأت المواجهات حولي،
حيث كان يصلنى فى موقعى
أصوات خراطيم المياه
وصرخات رجال الشرطة لمحاصرة القادمين من كل صوب،
والسيارت المدرعة تذرع الميدان
تهش المتظاهرين الذين لم يرضوا بغير ميدان التحرير
بديلاً مرددين
عيش. حرية. عدالة إجتماعية.
فى المساء وصل عشرات الآلاف من الشباب
إلى الميدان ليعتصموا به،
وتنطلق أصواتهم بغناء لوطن
تم اختطافه لعقود لا يملكون
سوى الهتاف بحياته.
بعد انتصاف الليل،
رأيت المحتفلون بنصرهم يركضون فى كل اتجاه،
وصراخ يعلو،
وأسر تتعثر فى خطواتها تحت هراوات الأمن المركزى العمياء،
بينما يغرق طوفان من الدم
وجوه ألقت بتعبها إلى قاعدة عمودى الجرانيتي،
قبل أن يلتقط أصحابها رجال الشرطة السريين
فى سيارات مدرعة تلطخت أرضها بالدم والعار
وبقايا القنابل المثيرة للدموع والرصاص المطاطي.
فى تلك اللية كانت مصر
تحاول أن تتنشق هواءً جديداً،
بينما يحاول نظام بطئ الفهم تكبيل
وتكميم ملايينه بالعسكر والقوة.
28 يناير
لأيام قبل جمعة الغضب،
توالت المسيرات الصغيرة،
وأحرق شباب إطارات تحت الكبارى
التى تقاطعت حول ميداني،
بينما كانوا يهللون لأبطال السويس الشهداء
ويطلبون شهادة تشبههم.
وانطلقت الشرارة بعد صلاة جمعة
حاشدة فى ساحتى بعد أن تم منعهم
من الوصول إلى التحرير،
استقبل فيها المصلون دفعات المياه الساخن
بينما يسجدون داعين الله أن يريهم دلائل قدرته.
ولم يكد ينتهى الإمام من الصلاة حتى انطلقت قنابل الغاز،
وانهالت الهروات على الرؤوس والأبدان دون تمييز.
كانت الأحداث بين كر وفر،
جماعات شابة تتعثر وتعيد التماسك عند هيلتون رمسيس،
وبجوار المتحف المصرى
بينما حولى تكتلت مدرعات الشرطة
بلونها الأخضر الكابى كحيوانات أسطورية
تلتهم صغار الطير.
فوق الكبارى التى تقاطعت بالقرب من تمثالي،
كانت قوات مكافحة الشغب بلباسها السود
تلقى القنابل المسلة للدموع
على المعتصمين بحديقة هيلتون رمسيس الصغيرة
المطالبين بإسقاط النظام،
بينما من الجهة الأخرى يلقى
رجال الشرطة السرية
بملابسهم المدنية وأجسادهم المنتفخة
بالأحجار على السيارات العابرة،
فهمت أن المطلوب هو القول بأن المتظاهرين
عناصر تخريبية يقومون بالهجوم على المارة من المدنيين.
احترقت إطارات، وتوالت قنابل الغاز
فى عرض ينافس محترفى استعراضات الألعاب النارية،
وسالت دماء طاهرة حملها البعض نحو »
حكر أبو دومة«
خلف التليفزيون لإنقاذها من الوقوع
فى أيد الشداد الغلاظ فى ملابسهم السوداء.
لم يعد ممكناً إيقاف أفواج تتوافد من كل اتجاه،
بينما تغطيه سحب غاز ثقيل
احتمى منه أصحاب الرتب بكمامات
تاركين جنودهم فى سوادهم
مكتفين بوضع المناديل الورقية فى الأنوف.
قبل أن تحل السادسة
دارت عربات الأمن المركزى
وهى تطلق عواء رحيل مستمر،
واختفى أصحاب الرتب فى شوارع جانبية،
وبدأت فوضاهم التى أشعلت النيران
فى مقر الحزب الوطني.
كانت أضلاع المؤامرة تكتمل،
قبل أن تصل فى الثامنة عدة دبابات
من الحرس الجمهورى لحماية مبان تليفزيون
ووزارات ومتحف مصرى وسفارات،
غير عابئين بحماية من أنهكتهم المطاردات الوحشية
ورصاص قناصة فوق مبان الميدان.
سلامتك يا مصر.
2 فبراير
من موقعى كنت مطمئناً لدبابات أغلقت الوصول
إلى ميدان التحرير لحماية المعتصمين
بداخله منذ الجمعة التى سبقت،
وأثار دهشتى رفعها صبيحة ذلك الأربعاء
الذى سبقه بيان عاطفى للرئيس السابق
كان بمثابة كلمة السر لبطانته للاحتشاد
وبذل ما فى وسعهم ليظل جاثما على صدر البلاد.
أصوات المؤيدين تقترب،
وباشوات الداخلية فى الملابس المدنية
يتابعون بفخر تنفيذ خطتهم
لإفراغ التحرير من شبابه ولو بالدم.
كانت المؤامرة تكتمل بمشاركة موظفين
وعمال تابعين لوزراء حلفوا اليمين
قبل يومين لخدمة الشعب لا رئيسه،
ولكنهم جميعا صمتوا أمام نهر الدم
الذى شقه مؤيدو الرئيس السابق باندفاعهم
خلف جمال وخيول دخلت الميدان فى ابتهاج هيستيرى
دون أن يعترضها أحد وبعد أن رحلت فى غفلة
دبابات الجيش الأربع التى كانت تسد التحرير من ناحيتى
بالقرب من الباب الخلفى للمتحف المصري.
تنبت فى أيدى المؤيدين
أحجارا وزجاجات فارغة حملوها فى أكياس بلاستيكية
قبل أن يتم مدهم بفرق لعمل قنابل المولوتوف
أعلى الكبارى المحيطة بميداني.
تشابكت الخيوط وسقط الجرحى والشهداء
وتكونت فى ميدانى ساحة حرب
قادها بلطجية مأجورون
علت هتافاتهم باتهامات سوداء
كالقلوب التى استأجرتهم
تصف شباب التحرير بالدعارة والخيانة،
بينما على مقربة منى مستشفى ميدانى على الرصيف،
أعلن منذ اللحظة الأولى علاجه للمؤيدين والمعارضين،
قبل أن يعلن عجز أطبائه من شباب التحرير المتطوعين
عن اللحاق بأرواح الشهداء الصاعدة لبارئها،
ظلت أرواحهم تدور رأس تمثالى
كطاقة نور لا تنتهي،
بينما ابتسامات الجالسين فى مكاتبهم المكيفة
-لا أستثنى منهم أحداً-
تتسع، وصمتهم يلفهم بالعار الأسود الثقيل للأبد.
4 فبراير
هى جمعة الرحيل كما قرر شباب التحرير
ومعهم تمنيت أن تعود مصر حرة مستقلة متخففة
من فساد تشعبت جذوره.
مئات الألوف تدافعت بعد أربعاء
دام لتعبرعن غضبها وسخطها من مذبحة
باركها النظام وغض الطرف عنها،
بينما مولها رجاله وأشرفت عليها أجهزته،
وتجاهلها رئيس وزراء بدا لطيفا
وهو يبدى عدم معرفته بالمسئول
ومعتبرا ما حدث فورة شباب.
أسعدتنى الأفواج التى بدأت منذ الصباح
ولم أملك سوى آمين أرددها مع الملايين
التى اعتصمت بكل ميدان تحرير فى مصر
فى حج مبرور للحرية
التى اشتاقات مصر لطعمها
بعد أن أنهكها ذل منظم تم تقنينه
ليصبح قاعدة وليس استثناء،
وتعال رئيس أوضح عشية تلك الجمعة
فى مقابلة لقناة أمريكية وليست مصرية
- أنه ضاق ذرعى من الرئاسة
وأرغب بمغادرة منصبى الآن
لكن لا يمكننى ذلك خوفا من أن تغرق البلاد فى الفوضي.
رغم أن الفوضى كانت خريطة يرسمها وأعوانه،
بينما لا يجد شباب التحرير
سوى وزير دفاع مصر
الذى ذهب ليزور ميدان التحرير صبيحة تلك الجمعة
ليهتف المتظاهرون الذين
لا يملكون حائطا آخر يستندون إليه فى التحرير
العار من أية حماية سوى رحمة الله العادل العزيز:
يا مشير يا مشير إحنا ولادك فى التحرير.
11 فبراير
كان صباح تلك الجمعة حزينا
بعد أن ضرب الإحباط قلب جيرانى
فى ميدان التحرير بعد خطاب ثالث من الرئيس السابق
أعلن فيه تفويضه لنائبه بالقيام بالإصلاحات
متحديا إرادة الملايين ومصرا على البقاء
حتى يحكم قبضته على ملفات الفساد
ويخفى المزيد منها بمباركته وبمساعدة رجاله
الذين أكبروه فوق شعب أقسموا على خدمته
كان الجالسون تحت قاعدتى
يزدردون لقيمات فى يأس شديد،
بينما يستعد بعضهم لجمعة الجمع
متوجهين إلى القصر الرئاسى فى مصر الجديدة،
تاركين خلفهم الملايين فى ميدان التحرير
يتضرعون فى دعاء جمعة التنحى
بأن يذهب الله البأس عن قلب مصر
والخراب عن لوحة مستقبلها.
كانت العيون قد ألهبها بكاء،
والخدود قد طالها لطم
فالرجل لا يريد أن يرحل
والكرسى أصابه بداء يصعب وصفه وتعريفه
مرت الجمعة ثقيلة
ولم يشفع للقلوب باردة الانعقاد المستمر للمجلس العسكري،
قبل أن تتردد أنباء مع العصر عن بيان جديد،
بلغت القلوب الحناجر
وأصوات تتهدج بدعاء
إرحمنا يارب
فى السادسة كان ميدانى
يهتز والتحرير يزأر فى صوت واحد
عاشت مصر حرة مستقلة
جاء الحق وزهق الباطل
يومها أشرق ليل مصر ببهجة التحرر
وشمس بزغت بعد ليل طويل بأرواح المئات ممن رحلوا
ودماء من خضبوا كل الميادين بدم قايضوه بالحرية
وشباب تركوا فى يدى علم بلادى
الذى استشهدت على أرضها
وإن ظلت سحب الشك والفوضى والدسائس
تحاول إحكام قبضتها علها تسقط فى هوة الفوضي،
.
(الْلَّهُمَّ أَنَّىَ لَا أَسْأَلُكَ رَدَ الْقَضَاءِ وَلَكِنَّ أَسَأَلَكَ الْلُّطْفِ فِيْهِ)