Sunday, February 6, 2011

خــطايا الإعــلام في مــــاسبيرو



قبل سنوات كان
السيد صفوت الشريف
أطول وزراء الإعلام عمرا في مصر
قد اعتاد أن يصحب الرئيس مبارك
سنويا لافتتاح صروح شامخة
من الاستوديوهات والتجهيزات
والمزيد من قنوات التليفزيون ومحطات الإذاعة‏
,‏ وفي واحدة من تلك المناسبات تساءل الرئيس
عما سوف يفعله الإعلام المصري بكل تلك التجهيزات‏.
‏ وبعد سنوات
جاءت الأيام لتقول
لا شيء علي الاطلاق
سوي المزيد من الضعف والتراجع
في الأداء والإهمال من جانب المصريين
خاصة في أوقات الأزمات‏.‏
جاءت الأحداث الأخيرة
لتضع الإعلام المصري
في مكانته التي يستحقها‏,‏
جلس مسئول الأخبار ينظر في البنورة المسحورة
ليري من الأحداث الأخيرة مالم يره غيره
ومالم يدرك حقيقته سواه‏.
‏ فخرج علينا بما لم نعرف
وبما لم تحمله الأيام العشرة الأخيرة من فوران‏,
كانت الأحداث تتوالي تحت شرفة مكتبه الفخم
علي كورنيش النيل وتصل الي ذروتها الدرامية
علي مسافة أمتار منه في ميدان التحرير‏,‏
لكنه لم يشعر بها حتي فاجأته قنوات
التليفزيون القادمة عبر البحار
بما يجري علي مسامعه ومرمي بصره‏,‏
وبدلا من أن ينتبه الي حقيقة الأحداث
ويستجيب لحقوق مواطنيه
في معرفة الذي يجري‏,‏ راح يدافع
عن خطيئته بالهجوم علي قناة الجزيرة
وغيرها تارة‏,‏ وبالتشدق بالدور الوطني
وأمن البلاد تارة أخري‏,‏ وهو يعلم نظريا
علي الأقل أن الحفاظ علي الأمن الوطني
يمكن أن يتم بوسائل كثيرة كان أسوؤها
الذي قام به الإعلام المصري حتي الآن‏.
وكانت زميلته التي جاءوا بها
رئيسا للاذاعة المصرية في غفلة من الزمن
في موقف أقل كثيرا من هذا
المستوي المتدني من الأداء‏.‏
فقد فاجأتها الأحداث وهي مشغولة
بمتابعة صورها الباسمة والأخبار
التي تنشر كل يوم عنها وعن انجازاتها
في الفن والغناء في الصحف المصرية‏.‏
أعادت قيادات ماسبيرو في الأزمة الراهنة
الي العقل المصري ذكريات الأداء الإعلامي
في نكسة‏67,‏ في التجربتين
كان الإعلام المصري ينقل أحداثا
لم تقع ويتحدث عن عالم لم يعد قائما
ويتجاهل عن عمد تفاعلات
سوف تغير وجه التاريخ المصري الحديث‏.
قدر لي أن أقع ضحية الإعلام المصري
فقد تصاعدت الأزمة وأنا أشارك في
مؤتمر إعلامي في إيطاليا‏.‏
ولم أجد سوي الفضائية المصرية
تضعني علي مقربة من الأحداث في مصر‏
.‏ وليتني مافعلت‏.
‏ فقد هبطت بي الطائرة أرض مطار القاهرة
وأنا أعتقد جازما بسبب الفضائية المصرية
أن الأمر لم يكن سوي مظاهرة مثل تلك
التي اعتدناها علي سلالم نقابة الصحفيين
حتي صدمني ضابط الجوازات
وهو يسألني‏:‏ كيف تصل إلي
بيتك فقد بدأ حظر التجول‏.
لم تدرك قيادات ماسبيرو حقيقة الدور
الذي ينبغي أن تقوم به وسائل الإعلام‏.‏
فهي الجهاز العصبي للدولة
الذي يستطيع تحقيق التناغم والتنسيق
بين مختلف الأجهزة في الاستجابة للأخطار المحيطة‏.
‏ وحتي يقوم بهذه المهمة يلزمه أن يدرك
الذي يجري في البيئة المحيطة
علي حقيقية حتي تكون الدولة بكامل
مكوناتها قادرة علي الاستجابة الحقيقية الناجعة
لما يجري فيها‏.‏
وبدلا من أن تستشعر
وسائل الإعلام المصرية حرارة الأحداث
راحت تخدر الجسد المصري
فلا يشعر بالنيران التي تهدده‏.‏
لم تستطع الإمبراطورية
الاعلامية المصرية الدفاع
عن رجل له إنجازاته مثلما كانت له أخطاؤه‏,
فكانت مصدرا لاستفزاز المؤيدين
للرئيس مبارك والمعارضين له علي السواء‏.‏
تحول أداء الإعلام المصري
وبسرعة شديدة إلي أحد أهم مصادر الاحتقان
في الشارع المصري حتي
إن الشباب المطالب بحقوقه السياسية والاقتصادية
والاجتماعية لم يجد مفرا من أن يفرد مساحة
من احتجاجاته ضد هؤلاء الذين قادوا
إعلام مصر في هذه الأزمة‏.
‏ تجاهلهم طويلا وحين تذكرهم
استخف بهم وبمطالبهم ثم صور
حركتهم بطهرها ونقائها
وصيحات احتجاجها علي شاشات التليفزيون
وعبر محطات الإذاعة إلي
حالة من التربص بأمن الوطن
والعمالة والبلطجة وحرق الممتلكات‏.‏
لم تبخل مصر يوما علي إعلامهم
رغم ضيق ذات اليد فأعطتهم مرتبات
غير مسبوقة في تاريخ الإعلام المصري
ووفرت لهم كل الامكانات التي تمكنهم
من الحفاظ علي المكانة والفاعلية
مصريا وعربيا‏.‏ ولكنهم وبغير وعي
انفقوا تلك الإمكانات في كل شيء
ماعدا تطوير قدرات البشر لديهم
وتأهيلهم لعصر المنافسة الحقيقية
فتراجعوا بمكانة مصر وتركوا الساحة
خالية لغيرهم ثم راحوا يهاجمونهم
ويستعدون الناس عليهم‏.‏
وفي كل مرة يتشدقون بالدور الوطني
والحفاظ علي أمن الوطن‏.‏
أمام كاميرات التليفزيون المصري
جلس مذيعون لا يعرفون من صناعة الأخبار
سوي التنغيم في الأداء وانتقاء الملابس
والبحث في الذاكرة عن معلومات فقيرة
ومفردات لغوية قليلة‏.‏
وأمام نفس الكاميرات وقف مراسلون
لا يعرفون حقيقة الذي يتعين عليهم القيام به‏.
‏ لا يجدون في أنفسهم خبرة تساعدهم
ولا معرفة تعينهم‏.‏
فقد اعتادوا أن يقولوا ما يملي عليهم
فتتساقط الكلمات من الشفاه‏.‏
لم تكن خطايا إعلام ماسبيرو قد بدأت
يوم الخامس والعشرين من يناير
حين أطلق هذا الجيل من شباب مصر
صرخته المطالبة
بحقوق الوطن السياسية والاجتماعية‏.‏
ولكنها بدأت قبل ذلك بوقت طويل
حين انفصل ذلك الإعلام
عن إهتماماتهم ومشكلاتهم ليدفع بهم
بعيدا يعيشون في مجتمع افتراضي
أنشأوه علي الإنترنت يتبادلون
فيه أفكارهم ويعبرون فيه
عن همومهم ويتفاعلون فيه مع قضايا الوطن‏,
‏ يستخدمون لغة نحتوا هم مفراداتها وتراكيبها‏.
‏ لم ينتبه أحد إلي أنهم عازفون
عن قراءة صحف بلادهم وعن مشاهدة القنوات
والمحطات المصرية التي تملأ الأثير
من حولهم حتي جاءت المفاجأة‏.‏
خرج هؤلاء من مجتمعهم الافتراضي
إلي الواقع عازمين علي تغييره‏.
وقد نجحوا فيما لم ينجح فيه غيرهم حتي الآن‏.‏
كان تحركهم المفاجيء
إدانة لمجتمع فشل في أن يتنبأ بحركتهم
لأنه ظل ينظر إليهم وإلي ما يقومون به
علي أنهم صبية يلهون بتكنولوجيا الاتصال الجديدة‏.‏
وحين قامت حركتهم تلقفها المحللون
والمنظرون ينعون عليها غياب رؤيتها المتكاملة
وأنها قفزة إلي المجهول‏.‏
وهي محاولة للتشويه والتشويش
من جانب المحللين والمنظرين
الذين اعتلوا الكثير من المنابر‏.‏
لم يقل أحد إنها ثورة تأصلت في فلسفة
أو اختمرت في مذهب‏.‏
هي صيحة في فضاء لم يردد لسنوات طويلة
سوي صوت واحد‏.‏
صيحة تعبر عما يجيش في صدور
مختلف قطاعات المجتمع منذ سنين‏.
‏ هي نواة لثورة ينبغي
أن تحظي برعاية الجميع
حتي تؤتي ثمارها التي
سوف يجنيها المجتمع بمختلف طوائفه‏.‏
العالم يتحدث منذ سنوات طويلة
عن الصحافة التنبئية القادرة
علي التنبؤ بالأحداث وتوجيه قوي المجتمع
نحو الظواهر التي تولد في الحاضر وتنمو في المستقبل‏.
ولكننا لم نفعل وشغلتنا أخبار الفن وفضائح الرياضة‏.‏
لم يفت الوقت أمام الإعلام المصري‏,‏
وبمقدوره أن يستعيد المصريين
إلي شاشاته ومحطاته بدلا
من أن يتركهم يبحثون
عن تفسير أو متابعة ما يجري عبر قنوات
نعتقد جازمين أن لها أهدافها سواء
أكانت مؤيدة أو معارضة لما يجري في مصر‏.
‏ الواجب الوطني يحتم علي الإعلام المصري
أن يستعيد وجدان المصريين شريطة
أن تكون الحقيقة وحدها دستور عملها
وأن تفتح وسائلها أمام الجميع
بصرف النظر عن مواقفهم‏.
‏ وأن تدرك أن ما يجري ومنذ أيام
هو دليل علي أن في مصر
مجتمعا عفيا وصحيحا
وأن تلك الحركة الشبابية
مصدر فخر وطني للجميع‏.‏
هنا يمكن أن يصل بنا إعلامنا
إلي شيء من الاجماع يعصمنا
من التشتت والتشرذم وفقدان البوصلة
التي ينبغي أن تأخذنا حيث مصالح الوطن العليا