Wednesday, February 16, 2011

....‏10‏ مشاهد من يوم الغضب


قادتني ظروف عملي الصحفي إلي التجول
وسط المتظاهرين من مكان لآخر يوم الجمعة‏.‏
وكنت حريصا علي تفحص وجوه الحشود‏
‏ وبعد بضع دقائق من المشي انتابني شعوران‏

‏ أحدهما‏,‏ فرح بما يحدث وأن هناك
من استطاع أن يقول لا بصوت مدو‏
كسر كل حواجز الصمت‏,‏ التي كانت
قد توارت برغم الضجيج الإعلامي المفتعل‏.‏
والآخر‏,‏ قلق من عواقب استمرار الغضب
وتحوله إلي فوضي وإنفلات‏,‏ وخوفا من
ركوب الموجة والتشويش علي المتظاهرين
في سلام‏.
‏ وكان همي الأول‏‏
محاولة التعرف عن قرب علي
المشاركين في المظاهرات‏.‏ من هم؟‏‏
ومن أين أتوا؟‏ وماذا يريدون؟‏‏ وإلي أين سيذهبون؟.‏
وجدت توليفة نادرة وعجيبة من الغاضبين

‏‏ كبارا وصغارا‏,‏ اولادا وبنات‏
‏ شيوخا وأطفالا‏,‏ أغنياء وبسطاء‏‏
محجبات وغير محجبات‏..‏
كما لاحظت في وجوه المتظاهرين
علامات قسوة لم أعهدها ضد
كل رموز الدولة‏,‏ بنايات وأشخاصا‏.
‏ ووجدت أيضا ابتسامات تعلو شفاه الكثيرين‏,
‏ حتي تصورت أن المتجولين في الشوارع‏‏
وكأنهم جاءوا في نزهة أو قضاء
وقت فراغ مع الأصدقاء‏.
‏ لكن حواراتهم ونقاشاتهم المتشعبة
أكدت أنهم يتابعون ويفهمون في شئون السياسة‏‏
أفضل من مدعيها الحاليين‏.‏
ويعرفون في شجون الإقتصاد‏,‏
أكثر من معظم الخبراء والمحللين‏
الذين كانوا مسئولين عن تقدير الموقف
وتقديمه إلي صناع القرار‏.‏
وربما تكشف المشاهد العشرة التالية‏‏
التي رصدتها من بين مئات المشاهد
‏ جانبا مهما من الصورة‏
‏ التي خفيت علي كثيرين‏
أو تعمدوا إخفاءها وتجاهلها عن قصد‏.‏
وقد تجيب قراءتها علي عدد معتبر
من التساؤلات الحائرة في أذهان بعض المصريين‏.‏
المشهد الأول‏‏
محمد صاحب الـ‏17‏ عاما‏‏
جاء من المنيا ليشتري
بعض الحاجات اللازمة لزواج شقيقته‏.‏
خرج من محطة مترو رمسيس‏(‏ مبارك‏)‏ فوجد
فجأة أمامه مظاهرة يصطدم
بعض أفرادها مع عناصر الشرطة‏.‏
حاول جاهدا البحث عن منفذ يبعده عن الاشتباك‏.‏
وعندما أفلح جاءه أحد الجنود
وانهال عليه ضربا‏.‏
وبعد أن أفلت من قبضته وقد خسر مشترواته‏‏
وجد سيارة أمن مركزي في
مكان بعيد عن الجنود‏
فقام بثقب‏(‏ تانك البنزين‏)‏ وأشعل فيها النيران‏
‏ وعندما سألته لماذا فعلت ذلك؟‏.‏
قال ولماذا هم ضيعوا حاجات شقيقتي
التي تعبت أسرتي من أجل شرائها؟‏‏
المشهد الثاني‏
‏ سمعت حوارا بين مجموعتين
من الشباب في مقتبل العمر‏
اختلط فيه الجد بالهزار‏.‏
قال أحد أفراد المجموعة الأولي ساخرا‏
‏ بعد أن شاهد ألسنة اللهب تتصاعد
من مقر الحزب الوطني بالتحرير‏‏
الدور القادم علي القصر الجمهوري
بمصر الجديدة‏,‏ فرد عليه آخر من
المجموعة الثانية‏,‏ لا نحن شباب
روكسي لن نسمح بذلك‏.
‏ مؤكدا أن هذا الرمز لا يمكن المساس به‏.‏
ثم تفرع الحوار إلي نقاط مختلفة‏.
‏ خلاصتها أن المجموعتين
ضمتا شبابا من بولاق أبو العلا ومصر الجديدة‏
جاءا للتظاهر السلمي‏,‏ احتجاجا علي
كل المظاهر السلبية التي
رأوها وعانوا مباشرة من ويلاتها‏.‏
المشهد الثالث‏
‏ وسط مجموعة من المتظاهرين
أعلي كوبري أكتوبر‏,‏ صاح أحدهم في عدد
من زملائه هيا بنا علي المتحف المصري‏
فالناس مشغولة بالفرجة علي حريق
الحزب الوطني‏,‏ والشرطة تركت لنا الشارع‏‏
سألته هذه مظاهرة سلمية فما ذنب المتحف؟‏‏
قال بحدة وهو يحاول أن يعطي لكلامه
مبررا منطقيا حتي نجبر النظام علي التغيير‏‏
فرد عليه آخر من بعيد أنت
مخرب ومدسوس علينا
وهذا تراثنا يجب حمايته‏
لكن المحرض لم يلق بالا لما سمعه
ونادي علي عدد كبير من زملائه
بالتوجه فورا إلي المتحف المصري‏,
‏ فقام الآخر بالنداء أيضا علي رفاقه وحضهم
علي التوجه إلي المتحف وحمايته بالدروع البشرية‏.‏
المشهد الرابع‏‏
حديث بين ثلاث فتيات
يرتدين الجينز والحجاب‏,‏ تتراوح
أعمارهن بين الـ‏17‏ و‏18‏ سنة‏.‏
قالت إحداهن منعوا عنا
الحوار عبر الفيس بوك‏‏
فنزلنا إلي الشارع لنمارس الحرية‏.
‏ وأضافت أخري كنا نفش غلنا فيه علي الأقل‏‏
لم يعد أمامنا طريق سوي الشارع
لنتواصل ونتحاور مباشرة‏
‏ ردت الثالثة‏,‏ يا جماعة قطع الانترنت خطأ كبير‏
لازم الحكومة تدفع ثمنه غاليا
وتشعر أنها غبية ومتخلفة‏‏
فإذا حبسوا عنا الأوكسجين الصناعي‏‏
لابد من البحث عن هواء طبيعي
للتنفس حتي نستطيع الحياة‏.‏
المشهد الخامس‏
‏ أب يجري وسط المتظاهرين يبحث عن إبنيه
وعيناه جاحظتان تتفحصان الوجوه
التي تمر أمامه‏,‏ عسي أن يجد فيهم إبنه
أو علي الأقل من يعرفه‏,‏ ثم انهال سبا ولعنا
علي المسئول عن قطع شبكات المحمول‏
‏ الذي منعه من التواصل مع ولديه‏,‏ فقد كان بإمكانه
من خلال اتصال تليفوني واحد
أن يعيدهما إلي المنزل‏.‏
وعندما فشل وجد نفسه
يهتف تلقائيا مع المتظاهرين‏,‏ وأخذه الغضب


والرغبة في الانتقام إلي الانخراط في صفوفهم,‏


وتناسي همه الشخصي وتذكر الهم العام فقط‏.‏
المشهد السادس‏‏
طفل لا يتجاوز الرابعة عشرة من العمر‏


‏ بسيط الحال‏,‏ يحمل علي كتفه شاشة كمبيوتر‏
سرقها من مقر الحزب الوطني‏‏
قلت له لا قيمة لها بدون القطعة


الثانية‏(‏ وحدة النظام‏)‏ فرد
وهو يبتسم حأعملها
شاشة عرض واتفرج عليها‏.‏
وأضاف قائلا‏
‏ نعم سرقت‏..‏
هل كثير علينا أن نأخذ الشاشة
وهمه بيمصوا دمنا ودم أهلنا من زمان‏
‏ وتركني الفتي ومشي لحال سبيله‏
‏ وبجواره صبي يتفاخر بحصوله علي خوذة
ودرع جندي أمن مركزي
وعلي كتفه طفاية حريق‏
ولا أعلم ماذا سيفعل بهذه الأشياء الرمزية ؟‏
المشهد السابع
‏4‏ شباب في الثلاثينات من العمر‏


وأثار النعمة المادية والثقافية


تظهر عليهم‏,‏ يتحدثون عن ضرورة


التغيير في مصر‏.‏


اقتربت لمعرفة معني التغيير‏
‏ فقالوا كلاما شاملا يدل علي وعي كبير
بكل ما يجري في مصر والعالم‏.‏
بدءا من الثورة التكنولوجية
وحتي الحكم بصورة ديمقراطية‏
‏ لكن لفت نظري أن هؤلاء الشباب المصريين‏‏
جاءوا من دولة خليجية خصيصا للمشاركة
في يوم الغضب‏,‏ استجابة لنداءات
الفيس بوك في الأيام الماضية‏
وللدفاع عما وصفوه بكرامتهم
التي أهدرت في مصر وخارجها‏
بسبب التصرفات السيئة
من بعض السادة المسئولين‏.‏
المشهد الثامن‏‏
شاب في العشرينات وقف
أمام مبني الأهرام ونادي زملاءه
أحرقوا هذه الوزارة‏!
‏ قلت له هذا مبني مؤسسة
الأهرام العريقة‏,‏ فأخذ يلقي
علي بوابل من الشتائم‏.
‏ حاولت الحوار
معه لأفهم أسباب غضبه‏‏
هدأ قليلا وكاد ينصرف‏‏
لكن سمعت صوتا
يأتي من شخص آخر يحمّلني‏
‏ وهو لا يعرفني بالطبع‏‏
وزملائي
الصحفيين مسئولية تضليل الرأي العام‏.‏
سعيت إلي توضيح الصورة له
ودور الأهرام والصحفيين المصريين‏‏
فأشاح بوجهه عني وتركني
أهذي مع نفسي‏.‏
شعرت وقتها
أنني لا أعرف ما يدور في الشارع‏
‏ ومن هم بالضبط المتظاهرون‏.‏
المشهد التاسع‏‏
سيارة ملاكي تقف أعلي كوبري أكتوبر
وداخلها‏4‏ أفراد‏(‏ أب وزوجته وطفلاه‏)‏ يوزعون
علي المتظاهرين زجاجات مياه
وساندويتشات معدة في أكياس‏.‏
وقبل أن ترحل السيارة الفاخرة
سألت صاحبها لماذا فعلت ذلك؟‏
‏ قال هؤلاء هم شرفاء مصر
الذين قاموا بما لم أستطع القيام به
أنا وغيري منذ سنوات‏‏
يجب أن أساعدهم علي الصمود والاستمرار
حتي ينالوا ما يريدون‏,‏ لأنه من حقهم التغيير


والاصلاح والقضاء علي الفساد‏.‏
المشهد العاشر‏‏
مجموعة من الشباب تتكون من‏7‏ أفراد‏


قال أحدهم سنسير مع زملائنا في
المجموعات الأخري حسب آخر
اتصال بيننا عبر الفيس بوك‏‏


والكل عارف دوره‏‏
فقد اتفقنا علي النزول إلي الشارع
مبكرا ومع كل واحد زجاجات بيبسي كولا
وخل وبصل لابطال مفعول
الغازات المسيلة للدموع‏
‏ لأن الأمن سيسعي بقوة إلي تفريقنا‏‏
حتي نتشتت وتفشل مظاهرة يوم الغضب‏.‏
اقتربت منهم وعرفت أنهم نزلوا من بيوتهم
عقب آداء صلاة الفجر في
أحد المساجد القريبة من وسط البلد‏‏
ثم تجمعوا هناك وذهبوا معا
إلي مسجد مصطفي محمود بالمهندسين
لصلاة الجمعة ومنه وصلوا إلي ميدان التحرير‏.‏
تبدو المشاهد السابقة ليست بحاجة
إلي تفسير‏,‏ لأن معناها ومغزاها ومضامينها
واضحة للجميع‏.
‏ لكن من خلال المتابعة والرصد
أريد التأكيد علي زاويتين‏.‏
الأولي‏‏
أن المظاهرات لم تكن ملكا لجحافل الاخوان المسلمين‏.
‏ وهو ما حاول البعض الترويج له‏‏
سواء تنصلا من المسئولية
وتبريرا للتقاعس وعدم الفهم‏
‏ أو لتوصيل رسائل تخويف
لجهات غربية معينة‏.‏
من الظلم أن يحصد الاخوان بمفردهم
هذا الشرف ونسحبه من جموع الوطنيين
الذين لم تحركهم أي تنظيمات
أيديولوجية أو سياسية‏
والزاوية الثانية‏‏
تتعلق بالغياب التام لأعضاء الحزب الوطني‏
الذي قيل أنه يضم الملايين
في صفوفه من المستفيدين والمنتفعين‏
‏ فأين ذهبت هذه الملايين؟‏‏
كنت أظن أنها ستنزل
إلي الشارع في يوم الغضب‏
إما لتواجه الغاضبين سلما‏‏
وتثبت أن للحزب وجودا حقيقيا علي الأرض‏
‏ أو لتمنع لاحقا المخربين وتصد السارقين‏
لكن الانسحاب السياسي والحزبي والأمني
في اللحظات الحرجة‏‏
أكد صواب تقدير المتظاهرين في ضرورة التغيير
‏m.abuelfadl@ahram.org.eg‏
بقلم محمد أبو الفضل المزيد من مقالات
محمد ابوالفضل

0 comments: